السير في الطرق الضيقة

ثقافة 2021/01/24
...

   ياسين طه  حافظ
في تأمل لتاريخ الفنون، ومنها تاريخ الشعر-الفن الأدبي– نصل إلى حقيقة مؤسفة قليلا. تلك هي أن استقلالية الفن مثاليته، صعب جداً الحكم بوجودها وإذا أخذنا بعض الاستثناءات، فنقول كانت تلك محاولات يتيمة، وقد استسلمت من بعد، سواء في حياة أصحابها أو بعد موتهم. فالافراد المتمردون، وضعوا ووضع فنهم في عصر تلا، أو عقود تلت، في صف الثوريين أو ضمن ثقافة الأحزاب السياسية. صارت الاشادة بهم لكونهم منتفضين اجتماعيين أكثر مما كانت عبقريات إبداع فني.
ولكي نكمل الموضوع، بايضاح أكثر، لنأتِ إلى كلمة "فنان" الأجنبية artist، هذه الكلمة لم تظهر إلا في القرن الثامن عشر قبلها كان الفنان حِرَفياً، يطلب منه عمل فينجزه. 
في القرن التاسع عشر ما التقت الطليعة الفنية بالطليعة السياسة إلا في أنطقة ضيقة، تزايدت هذه العلاقة، أو هذا الانتفاع المتبادل بالتدريج ومنذ منتصف القرن التاسع عشر وإلى يومنا.
وللعلم، حتى في العصر الرومانسي، كان للفنان وجه الفرد الهامشي في  حركة أوسع كثيراً من حقله. تفرده وتمرده على القيم السائدة كان حراكاً أراده يفضي إلى إبداع فن أوسع،  مثلما إلى عمل سياسي أقل سعة.
وسنرى عدم الرضا الخارجي وتدخل الحكومات تدخلاً مباشرا في هكذا حركات، للافادة منها ولاستكمال "ماينقصها" من  سلامة التوجه، أي إلى حرفها لما تريد هي. هي فرصة لتوسيع فعلها السياسي وللاستحواذ على جوهر الفن وقدرته الاشعاعية، لما ينفعها. فكانت تخصيصات  مالية ودوائر تهتم بها أو كما يقولون"ترعاها"، وهكذا تداخل الحس الشخصي مع الحس العام او مع الضمير الاجتماعي – وهذا يعني أيضاً "الإبداع الفني بالسياسة".
هذا موضوع كبير نستطيع أن نخلص بواحدة من نتائجه: اننا لن نجد جواً بعد يحفظ للفن ازدهاره "النقي" وان الفن الخالص أقرب للوهم منه للواقع. وتبقى الأمنية أمنية ليس إلا!. 
لا تأخذنا العواطف بعيداً. فثمة سبب علمي، ذلك هو صعوبة عزل المحنة، او التجربة ، او الإحساس الفردي في أيما مشروع او موضوع، وقطع ارتباطاته بالبيئة او المجتمع او مانسميه الواقع المعيشي. وصعب تماماَ التغطية على حس الانتفاع وبتبادله. وهذا ما يجعل المتباعدين نظرياً في تماس او نقاط التقاء لا يستهان بها، اللهم إلا لفظياً.
هذا الكلام او هذه النتيجة ترغمنا على إدارة اتجاه الحديث من أجل الوصول الى حل. وبدءاً أقول، سيكون حلاًّ توفيقياً وآنياً أو مرحلياً. لن يكون عاماً ولا دائماً!، فما هو العمل إن فعلناه يُتِحْ فرصة "حرية نظيفة" لها للابداع الخاص والرؤية الخاصة والحس الخاص ويحتفظ بسلامته واستقلاليته؟،أي يستطيع الفنان ان "يعيش" سالماً ويزدهر في بيئة خشنة مشتبكة العلاقات والمشاعر ولها مسار جمعي يجرف الجميع في تياره الواسع؟، هل يصرخ في البرية كما فعل طرفة بن العبد الذي قُتِلَ من بعد؟، هل يموت اكتئاباً ويختنق بوحل مجتمعه كما حصل لاجار ألن بو؟، هل يطلق صرخة، يجأر غضباً ويُعدم كما أُعدِم العشرات بل المئآت، او يصلب كما صلب المسيح وظل رمزاً وموضوع إشفاق أبدي؟. أظننا نحتاج الى رؤية وعقلانية تحترمان الواقع المعيش ايضاً لا المتخيل وحده، لنعرف كيف للفنان ان "يعمل" فيه و"يحيا" فيه. نعم، يصعب، ولا نريد استبدال التفسيرات والتأويلات الروحانية والجمالية، ولكن من حقنا الصريح الواضح أن نعبر عما تريده أرواحنا وعما نحس"نحن" به. 
لكن احترامنا لهذا الحق لايمنع من الاقرار، الصريح الواضح ايضاً بأن الفن، وان الادب الابداعي، لا ينتميان الى الجمالية وحدها، وانه ايضاً، وفي مجمل أحواله، ليس مثالياً. أصله الحِرَفي فاعل في جوهره حتى الآن وبنسبة صعب نكرانها، لا في عملية إنجازه ولا في في صيرورته الاجتماعية وتغير فضاءاته. ثمة مسببات خارجية تؤازر وجوده ولا تتخلى عن حصتها فيه!.
أيضاً علينا ألا ننسى أن العمل الفني يظهر ضمن سياق بيئي ومناخ أخلاقي وأجواء سياسية، الاقتصاد سلاحها وهو واسطة التعايش بينها. وعندما نشيد بلوحة او بقصيدة او منحوتة، قد يكون ذلك لانها "أفادت" أحساسنا ولبت حاجتنا اكثر مما هي قيمة او جميلة. وهنا يكون حجم الخسارات في الفنون، ومنها الفن الادبي، كبيراً جداً عبر العصور. كما ليست كل عقائد الناس صحيحة علمياً، لكنها تكتسب جمالها وصوابها من ايمان الناس بها، او من حاجتهم إليها. هي وكيلة مشاكلهم وينتظرون منها وعداً، او عوناً، حين لا مناص ولا حل.
كما هو واضح، احتدام الاشتباك، والواقع السياسي الاجتماعي هو الذي وضع حلاً، وحلاً لازماً تسنده القوة او يسنده الموت!. الفن عنصر في البنية الفوقية للمجتمع الذي تسيره البنية التحتية – الاقتصاد وهذه مسألة يمكن إعادة أو تعديل دلالاتها، لكن صعب القفز عليها!.
يبدو أن هذا وضع حداً للتخبط وللتشبثات وطول الوقت الذي ضاع للوصول الى حل ولاحل حتى اليوم. ولكن الفن بطبيعته وبانتمائه الفردي ذرعاً بهذا التحديد، وتمرد عليه: وهنا صار من جديد مناوئاً للرؤية الأخيرة،  فاعتبر مضادّاً سياسياً!.
وما فاقم التضاد أن تلك تربط الفرد ونتاجه بالمجموع. أصحاب الخلاف الجديد، المنافسون، راحوا يعملون على تفكيك قوى أولئك، صاروا يعملون، مؤسسات وأصحاب مال، على تأكيد تفرد الذات، على الفردية، وصاروا يعملون على سحب الفنان وفنه فلا يكونان ضمن وسائل واسلحة اولئك. لقد أريد به مالم يكن من غاياته. تعقد الموضوع حين لم يعد خصومات فكرية واجتهادات ولا التأكيد على استقلاله. صارت لكل من الطرفين أهدافه، وخسر الفن ما أراد وخسر الفنان، بينما أُضيف عنصر الى الحرب الباردة التي ما تزال.