«البنفسج».. جدلُ النصِّ ودهشة التنغيم وروعة الأداء

الصفحة الاخيرة 2021/01/25
...

تحسين عباس 
 
ازدهرت معظم الثقافات الفنية والأدبية في العراق في الحقبة السبعينية، لكن ضعف الإعلام العراقي حال دون انتشار الغناء العراقي بما يستحق كقرينه الغناء المصري؛ فلو أخذنا أحد أشهر الأغاني السبعينية وهي أغنية (البنفسج) التي يمكن أن نعدها سمفونية الغناء العراقي لتعدد انتقالاتها الايقاعية والنغمية وطول مدتها الزمنية، حيث ناهزت الــ 15.56 دقيقة فهذه الأغنية لو كانت تغنى على مسارح كبيرة وكان الجمهور يطلب إعادة مقدمتها البالغة 4.25 مع الغناء البالغ 11.31 دقيقة، ثلاث مرات على أقلِ تقدير، لتراوحت مدة الأغنية  بين الساعة وأجزائها، 
وهذا ما كان يحصلُ في أغاني أمّ كلثوم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش! ويلحقُ مثال هذه الأغنية – البنفسج- عدةُ أغانٍ من جيل السبعينيات كـ أغنية ياطيور الطايره وحاسبينك
.
أمّا الآن أدعوكم للتفضل الى مائدة (البنفسج) الإبداعية والتي هي من كلمات الشاعر الكبير (مظفر النوّاب) وتنغيم الموسيقار طالب القره غولي وغناء صوت الأرض الفنان الكبير ياس خضر.
   الفكرة: 
   ابْتدأ بناءُ القصيدة بـمَسكِ القارئ من أول مفردةٍ عندما يقول:»  يــــا طعـم.. « ستترك هذه المفردة وراءها فـراغاً، يملئُ على المتلقي أنْ يتـأمـّلَ هذا الطعـــم، فيتحرى ذهنياً عن معرفة نوع الطعم وشكلِهِ وماذا سيكونُ القادمُ بعد هذا المعنى، ليكتملَ معنى الطعـم، فجعلَ التـأويلَ مفتوحاً عند القارئ ليختار أوصافَ هذا الطعم قبل إخبارهِ عن التكملة بكلمـةٍ سحريـّة أخـّـاذة، إستوحاها من شكل ورائحة ولون البنفــسج، تلك الزهرة المتألقة في الليالي المقمرة، فاستخدام عبارة « يا ليلة من ليل البنفسـج» لفتح المخيلة الرقراقة في العاطفة الانسانية، يتلوها مكرُ الايحاء فيشغلَ بـالَ المتلقي عند « يا حلم» فأيّ حلم هذا؟ هو الذي في المنام أم في اليقظة؟  فهـذه مراوغة مقصودة من الشاعر، ثم يرجع ليباغت المتلقي بالعدم في « ما مش بــمامش» أيْ لا وجـودَ لهُ على المتناول المادي، فنص البنفسج مثيرٌ للجدل في تناولهِ هل هو نصٌ وجداني أم سياسي؟ وقد منعَ النظامُ السابقُ تداولَ هذهِ الأغنية لشيوعها على أنّها رمزٌ من رموز الحزب المخالف له.
التنغيم: 
تبتدأ المقدمة الموسيقية بجمل من نغم النهاوند على درجة الدوكاه في فالتٍ موسيقي تؤديها الآلات في دخول متنوع للإيقاعات بين ميزان 4/4 و2/4 ( ايقاع الزفة والوحدة الصغيرة) بنفس نغم النهاوند (البوسليك) حتى المقطع الأول حين يتحول الايقاع الى الوحدة الكبيرة 4/4 فيفتتحُ الغناءُ عبارتَهُ: 
« يــــا طعـم.. يـا ليـلة من ليـل البنفســج
يـاحـلم.. يـمـامش بمـامـش (ما من شيء)
طـبـع كَـلـبي مـن اطـبـاعك ذهـــــب
تـرخص.. وأغـلـّيـك.. وأحـبــــّـك» 
 
* * * 
يبقى مقياس الزمن على الوحدة الكبيرة ويتغير النغم الى هزام على درجة الفا كار ديز  في : « آنا متـعـوّد عليـك هــواي.. يا سـولة سكـتـّي ـــ (يا إدمان سكوتي) 
يـا طـواريــّك ( يا سيرتك).. من الظلـمــة تجــيــني « ويتحول الى نغم الصبا على درجة  اللا  حسيني في « جـانـن( كانت) ثـيـابي علي غـربـة كَــبل جـيـتك
ومـسـتاحـش مـن عيـونــي وألـّـمتـني
وعـلى المـامـش.. عوّدتني 
آنـا حـب هـوايـه كَــبـلك ذوّبــاني» ثم يكرر الجملة الأخيرة بتدرج استقراري على نغم البيات من درجة اللا عشيران لتبتدأ موسيقى ممهدة على نغم البيات من نفس الدرجة جواباً ويلحقها الغناء على نغم الشور بيات المُشرب بالصبا وبإيقاع الهجع في « إشـلـون أوصـفــك.. وانـت كـهـرب (حجر باهظ يشع في الليل الحالك)
وآنـا كَـمرة عيـني.. دمـعـة ليـل ظـلـمـة! « 
إشـلـون أوصـفـك..!
وانـت دفــتر
وآنـي جـلمـه (كلمة)..!!
ثم يتحول في انتقالته السادسة الى نغم النهاوند على درجة الدوكاه وبإيقاع الوحدة الكبيرة في:
«يـلـّي.. مـاجـاسك (لم يلمسّك) فكـر بالليــل ومجاسك (ولم يلمسك) سـهـر
يـلـّـي بين حـواجـبـك.. غـفـوة نـهـــــــــــــــــر»
ويتحوّل بعد ذلك في انتقالتهِ السابعة الى نغم رست النيشابورك على درجة الدوكاه وبإيقاع المقسوم: « يـلـّي جـرّة(مسحة) سمــــا بعـينـك
خــاف أفـززهــا ( أفيّقها)من أكَولــّك
آنـــا احـبـّــك
آنــا احـبـّـــك « 
وتأتي موسيقى قصيرة ممهّدة تبتدِئها آلة الناي لتجسدَ تجنيسَ الحجاز ركوزاً على درجة لا الحسيني  بمصاحبة الوتريات التي جسدت نغم الهزام ركوزاً على درجة فا كار دييز عند: 
مـامـش بمـامـش.. و للـمامش..
يـمـيزان الـذهـب.. وأدغـش واحـبــّـك «
ثم يأتي فالت موسيقي بشكل قصير جدا يتلوه الغناء بتجنيس الصبا ركوزاً على درجة الحسيني في: 
« وارد أكّــلـّك...
فـرنـي حـسـنـك.. يـابنـفـسـج
وانـتَ وحـدك.. دوّخـتني .. يـابنفـسج « يكررها مرتين ويستمر مع نغم الصبا في: 
« وعلى حبك انا حبيت الذي بحبهم لمتني»  
وقد تضمنتْ هذه الانتقالة الموسيقية نغم البستنيكار لأنَّ نغم السيكاه تخلَّلَ فيها ركوزاً على درجة الفا كار دييز وجنس الصبا  على درجة لا الحسيني جواب. 
وعند خاتمة الغناء ينسحب من نغم الصبا على درجة اللا حسيني الى النهاوند بجملة موسيقية موصلة ثمَّ غناء نهاوند على درجة الدوكاه  ليُشكل ما يُسمى بنغم الشوق انكيز في: 
« يـاطعـم.. يـاليلـة من ليل البنفــسج
يـا عـذر عـذرين.. يـا شنهي واحـبـّك «
 
الغناء: 
بعدما كنّا معاً نتجوّل في أعماقِ الانتقالات النغمية والايقاعية وكيف كانت تدهشنا بين الفَيْنةِ والأخرى، نجدُ أنَّ مثلَ هذا الغناء صعبٌ في الأداء لتغير درجات الركوز وبشكل غير متوقع، وهذا ما يعطي الأفضلية في الأداء للمطرب الكبير ياس خضر لسيطرتِهِ على انتقال النغم والوزن مع محافظتِهِ على الإحساس بدون تكلّف
 وتلكؤ.