رماد عشتار.. الانتحار حرقاً

ثقافة 2021/01/25
...

ابتهال بليبل 
لأنّي امرأة، أُدركُ أنّ تعرّضي المستمر إلى إحقاق توازن في علاقة مشروطة بمخاوف ومحاذير ينتج لديَّ ارتباطاً مشوّشاً، وحتى لو اتفقت مع نفسي على أن أتحمَّل ذلك، سأبقى عاجزة بل ومؤذية لنفسي وأحياناً لغيري.
عندما كنت صغيرة.. بعينيّ رأيت النار بدلا من جسدها. لم تكن قريبة. كانت تصرخ بصوت ما، يبتعد قليلاً، ثم يقترب، ثم يبتعد ويبتعد مع الدخان. أعوام طويلة على هذه الحادثة.. (الانتحار حرقا). ولكني كل مرة أسمع عنها.. فالانتحار حرقاً من الوسائل المتبعة في ثقافة العراقيات تحديداً، ولا أعرف- صراحة- بأية طريقة تشكلت ذات هذه الأنثى أو تلك، لكن بمقدوري أن أتخيل أنها يجب أن تكون بهذه الشكل، فبينما صادق بعضهم على حرق الجسد المتعمد كمخالف للعقائد الدينية، استعادت الأنثى الاحتجاج بالحرق كممارسةٍ مغروسةٍ في تاريخنا النسويّ. والأهمّ، تمثلها بعادات شائعة عند النساء والمتداولة لعبارة (راح أحرك روحي). 
ويبدو أن لسيادة المجتمع الذكوري الذي تُمارس فيه جميع أنواع العنف وشتى أنواع الضغوطات التي تقيد حرية المرأة، دور في لجوئها إلى الأسطورة أو بمعنى آخر إلى بداية الخلق نحو جذورها. فهذا العالم بالنسبة لها الآن قد فقد صلاحيته، وبدأ يتقاطع ويؤثر في وجودها. هكذا.. تفكر.
وأفكرُ الآن.. أن حرب الجسد الأنثوي الأخيرة، أو بمعنى أدق، الانتحار حرقاً يتمتع بجاذبية هائلة بوصفه خيالاً تاريخياً أسطورياً، وأن دوافع اختيار المرأة أسلوب إيذاء الذات هي دوافع ذاتية ذات صلة بتخفيف التوتر عبر معاقبة الجسد الأنثوي. أما الدوافع الاجتماعية، فهي ذات صلة بتحرر الجسد وتخليصه من ماهية وجوده أو عدمه بالانتقام.
فقد ساوت العديد من الثقافات القديمة النار بالإناث. كان للإلهة السومرية عشتار، إينانا قدرة نارية في السيطرة على الرجال. وقوة كونية للخلود الأنثوي، والشيء نفسه كان يفعله الطائر الفينيقي الجميل الذي يجثم في نهاية حياته على عشه في غموض ويغرد بصوت خفيض حزين إلى أن تنير الشمس الأفق وهو عن الحركة عاجز فيحترق ويتحول رماداً. ثم يولد من جديد من رماده ويبعث حياً.. وهكذا في دورة من الموت والحياة لا تنتهي.
من هنا، كان انبعاث الرمز الأسطوري يتصل مباشرة بقضية التحرّر والخلود، إذ إن حرق الجسد يساوي التلاشي التام، أي عدم بقاء أثر واضح (جسد) ممكن أن يدفن ويكون موضع عزاء.. وهو تشويه متعمد للجمال الأنثوي من الأنثى نفسها أي كأنها تقول إنها لا تريد للجمال أن يبقى بين مجتمع يضج بالقبح.
أيضا.. الحرق نتاجه نار.. والنار طاقة كونية منتجة لطاقة أخرى هي طاقة التغيير.. أي أن الحرق للجسد هو ايحاء.. لجسد آخر أن يكون حرا. كما الاحتراق والحرق.. لا يتناغمان مع كينونة المرأة التي تميل إلى الرومانسية والهدوء والأناقة حتى في أشد حالاتها الوجودية انتهاكا وهي الانتحار.. لذا اختيارها الحرق يجعلنا نمعن النظر في الخلل البنيوي الذي أدى بها إلى هذا الحل المروع.. وهذه مهمة عسيرة تتطلب جهود الكثير من الحقول المعرفية المتقاربة التي تجعل من الإنسان مادة لها. بالطبع أنا هنا أبحث عن حلولتقنع المرأة أن الحل ليس هذا، بل في خيار التجاوز.. عبور لحظة الحرق إلى لحظة المقاومة، وهذا الأمر يستدعي منا نحن المهتمات بالنسوية أن نعيد صياغة الخطاب النسوي بشكل آخر..يستدعى منا خلق أنموذج نسوي غير قابل 
للاحتراق.