المرأة في فكر رواد النهضة
منصة
2021/01/26
+A
-A
أحمد الناجي
نظر رواد النهضة الحديثة الى واقع المرأة العربية منذ مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأدركوا أنَّ المسار التاريخي مختلف عما عاشته المرأة الغربية، وخلصوا الى أنَّ تحرر المرأة جزءٌ من صراعٍ اجتماعي واسع النطاق، إطاره العام هو تحرير المجتمع بأكمله من الاستبداد، والمتضمن إطلاق الحريات في ظل الديمقراطية التي يمكن من خلالها أنْ تلعب المرأة دورها كعنصرٍ فعالٍ في مجتمعها.
تبلور موقف رواد النهضة من قضية المرأة على إثر انعكاسات الصورة المتشكلة عن معالم الحضارة الإنسانيَّة، وبفعل تنامي النزوع لاستلهام تجربة تقدم دول الغرب علمياً وتطور مجتمعها، فسعوا نشداناً الى رقي مجتمعهم وتمدنه، يحدوهم أمل التجديد والاقتباس من معطيات العصر الحديث، وكانوا على يقين أنَّ نهضته لا يمكن أنْ تتحقق على الوجه الأكمل إلا بالاستناد على ركيزتيه، الرجل والمرأة على حدٍ سواء، وهكذا انطلقت رؤى وأفكار التنوير، وكان في مقدمتها فكرة تغيير الواقع الذي عاشته المرأة في مختلف البلاد العربيَّة، وجرى ذلك بالاعتماد على أنساقٍ ثقافيَّة وأطرٍ اجتماعيَّة متعددة، كالصحافة وإصدار الكتب وإقامة الندوات والاجتماعات والتظاهرات.
كان من أوائل مناصري قضية المرأة في عالمنا العربي، الصحافي اللبناني أحمد فارس الشدياق (1805 - 1887)، فهو نصير المرأة قبل أنْ يهب شرقي لنصرتها على حد وصف مارون عبود، وانطلقت بواكير دعوته الى تعليم المرأة بكتابه (الساق على الساق) الذي صدر سنة 1855، ومنها قوله: "فأما تعليم نساء بلادنا القراءة والكتابة فعندي محمدة بشرط استعماله على شروطه...". كما واظب على الكتابة في جريدة (الجوائب) التي أنشأها في الاستانة سنة 1860، مطالباً بحرية المرأة.
بعد مضي عقودٍ من السنين على تلك النسمات التنويريَّة، سجل الشيخ رفاعة الطهطاوي (1801 - 1873)، في كتاب (تخليص الإبريز) مجموعة من الحقائق والملاحظات حول المرأة الفرنسيَّة واصفاً الأنشطة التي تمارسها من بيع وشراء وأعمال يدويَّة وإداريَّة، مادحاً تصرفاتها، ومن ثم وضع كتاب (المرشد الأمين لتربية البنات والبنين)، الذي طبع سنة 1873، وهي السنة التي توفي فيها هذا الشيخ الأزهري، والأب الحقيقي لحركة التنوير في مصر الحديثة، وقد دعا فيه الى تمكين المرأة بالتربية والتعليم لأداء واجبها في بناء المجتمع. وهذه دعوة جريئة لم يعرفها المجتمع الإسلامي من قبل، وذهب الطهطاوي الى أبعد من ذلك، حين عد بطالة المرأة مذمة عظيمة، بينما العمل يصونها عما لا يليق بها ويقربها من الفضيلة. وقد فتحت آراؤه في ذلك الكتاب ثغرة كبيرة في جدار التخلف والجمود، ويعّد ما جاء فيه اختراقاً للمألوف، فهو القائل: "ينبغي صرف الهمَّة في تعليم البنات والصبيان معاً". منوهاً: "اقتضت التجربة في كثير من البلدان أنَّ نفع تعليم البنات أكثر من ضرره، بل لا ضرر فيه أصلاً"، وأضاف الطهطاوي: "ودخول البنات والغلمان للمدارس قانوناً في جرمانيا، بل إنَّ أوروبا كلها تعلم البنات والبنين على قدم المساواة، وهذا هو السر في أنَّ بلادهم الآن أقوى البلدان".
تتالت دعوات تحرير المرأة، وظهر مفكرون آخرون، منهم: بطرس البستاني (1818 - 1883) ، وهو من أوائل المطالبين بتعليم النساء في عالمنا العربي، وقد تطرق لمعاناة المرأة بسبب القهر والجهل والحرمان، معتبراً أنَّ من يبتغون إذلال المرأة وتجريدها من حقوقها إنما ينزلوها دون منزلتها المعينة من باري الكون، ويختلسون منها تلك الحقوق التي أقامها الله.
أما عبد الرحمن الكواكبي (1855 - 1902)، داعية الحرية المشهور، فقد تحدث عن المرأة ودورها في التربية والمجتمع، ودعا الى تحريرها من الجهل، فهو القائل في كتاب (أم القرى): "إنَّ لانحلال أخلاقنا سبباً مهماً يتعلق بالنساء، وهو تركهن جاهلات على خلاف ما كان عليه
أسلافنا...".
استمرت خطى رجال التنوير في مسيرتهم لمناصرة قضية المرأة، وجاءت هذه المرة بنبرة مختلفة، تحمل أطروحات تبتعد عن كل التوفيقات مع الدين، حين أصدر المحامي القبطي مرقص فهمي (المرآة في الشرق) سنة 1894، وقد تجاوز مرقص بمضامين كتابه حدود ما هو سائد، بل قفز بأفكاره الى مديات كانت محظورة واعتبرت من المحرمات، لا سيما دعوته الى الاختلاط، ورفض الحجاب، وتقييد الطلاق، ومنع تعدد الزوجات.
ولكنَّ النقلة النوعية، برزت في الدعوة الى مشاركة المرأة للرجل في الأعمال والشؤون العامة بأجلى بيان في مطلع القرن العشرين، وكان رائدها قاسم أمين (1865 - 1908)، وقد عدت هذه الرؤى والأفكار معالجات في الفكر الإسلامي، لأنها منسجمة مع الرؤى الإصلاحيَّة لمدرسة الأفغاني، وآراء الشيخ محمد عبده الذي دافع عن قضية المرأة، حتى قيل بأنه متضامن من وراء ستار مع تلميذه قاسم أمين، حيث سبق أنْ أوجد تبريراً دينياً مستمداً من الشريعة الإسلامية للمساواة بين المرأة وبين الرجل.
يصح أنْ يقال الى حدٍ بعيدٍ إن أفكار قاسم أمين الذي لقب بحق (محرر المرأة)، كانت بمثابة تقويم لما هو سائد في الواقع الاجتماعي والثقافي، انطوت على معالجة الرواسب والتقاليد والعادات الموروثة. فقد أصدر قاسم أمين كتاب (تحرير المرأة) سنة 1899، الذي تناول فيه عدة قضايا مست شؤون المرأة وشجونها، كالحجاب وتعدد الزوجات والطلاق والتعليم وتأمين العمل المطلق لها، وأثبت في ما طرحه من أفكار ورؤى أنَّ العزلة بين المرأة والرجل لم تكن أساساً من أسس الشريعة، وأنَّ لتعدد الزوجات حدوداً يجب أنْ يتقيد بها الرجل، ثم دعا الى خروج المرأة الى المجتمع، لكي تلم بمختلف شؤون الحياة، ولقيت هذه الآراء عاصفة من الاحتجاج والنقد، ولكنه تعامل بسعة صدر وروية بال، وصبر في مواجهة تيار التشدد الجارف، حين مكث قرابة سنتين يدرس أصداء كتابه، وما نشر حوله من كتب ومقالات، وتمخضت عزلته في نهاية المطاف عن إنجاز رد على جميع منتقديه، جاء في كتاب (المرأة الجديدة) الصادر سنة 1900، مطالباً بتشريع قانون يكفل للمرأة حقوقها عموماً، والسياسيَّة منها على وجه الخصوص.
كان قاسم أمين أول مثقف مسلم، يفتح طريقاً أحادي الاتجاه نحو الغرب وعلومه، متخطياً الاتجاه التوفيقي الذي سار عليه الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده، فنظر الى موضوع المساواة بين المرأة والرجل، وأتى بالأدلة من النصوص الدينية الإسلامية على هذه القضية، وأرجع أمر اضطهاد المرأة الى الاستبداد السياسي في المجتمعات، واصفاً تلك الأحوال بقوله: "أنظر الى البلاد الشرقية، تجد أنَّ المرأة في رق الرجل والرجل في رق الحاكم، فهو ظالم في بيته، مظلوم إذا خرج منه، ثم أنظر الى البلاد الأوروبية، تجد أنَّ حكوماتها مؤسسة على الحرية والتقدم واحترام الحقوق الشخصيَّة، فارتفع شأن النساء فيها الى درجة عالية من الاعتبار وحرية الفكر والعمل".
أحدثت آراء قاسم أمين صدى واسعاً في أوساط مفكري عصره، فمنهم من رحب بها وأثنى عليها، ومنهم من تصدى لها ورد عليها بعنف، ومن الكتب التي ألفت في الرد عليه كتاب عبد المجيد خيري (الدفع المتين) سنة 1899، وكتاب محمد طلعت حرب (فصل الخطاب في المرأة والحجاب)، ومنع قاسم أمين من دخول البلاد العثمانية، وتولت مجلات (الاتحاد العثماني) و(الهداية) و(الحقائق) الرد على أنصار تحرير المرأة. والحقيقة أنَّ قاسم أمين سعى للتوفيق بين أحكام الدين ومواكبة تطور الحضارة الإنسانية، ناشداً التعويل على العقل كلما دعت الحاجة الى الإصلاح الديني. وأوجز في استدراك له خلاصة تجربته في الكتابة بهذا الشأن، معبراً بصدق عما تنطوي عليه رؤاه التجديدية، قائلاً: "سيقول قوم إنَّ ما انشره بدعة، فأقول نعم، ولكنها ليست في الإسلام بل في العوائد، وطرق المعاملة التي يحمد الكمال بها".
ومختتم القول: ينضوي خطاب رواد النهضة بصفة عامة تحت خيمة الفكر الإصلاحي، والإصلاح هو منظومة من المعارف الفكريَّة التي تهدف نحو تغيير وضعٍ ما، ويمكننا تصنيف فكر رواد النهضة وفق نزعاته على اتجاهين: الأول: التيار التوفيقي المتمثل في مدرسة التجديد الإسلامي ومرجعيته دينيَّة متنورة. والثاني: التيار العلماني الذي ينظر الى حقوق المرأة من زاوية إنسانية ووطنيَّة من دون الرجوع الى النصوص الدينية ومرجعيته الغالبة غربية، وتشارك مفكرو كلا التيارين في رسم ملامح العقلانية في الفكر العربي
المعاصر.