بائع الأحذيــة !

الصفحة الاخيرة 2021/01/26
...

حسن العاني 
ما لم تخذلني الذاكرة فهو نيسان من عام 1966، اذ خضعت لرغبة والدي رحمه الله، وانتقلت مع الاسرة للسكن في مدينة الكاظمية مجدداً، وكنا قد غادرناها قبل أكثر من عقد من السنين، الا ان والدي لم يعشق مدينة مثل عشقه للكاظمية، وكان يقول لي باستمرار (لقد اخطأنا عندما تركناها، الكواظمة خوش اوادم ويحترمون الجار)، واعتقد ان رأيه صحيح، ولكنني كنت اعتقد، وما زلت، ان هذه الخصال الكريمة هي سمة العراقيين جميعاً..
على أية حال، المسألة ليست مهمة بالنسبة لي، وما دامت هي رغبة الوالد، فما الضير من تنفيذها، وهكذا (تحولنا ) الى محلة (النواب) في الكاظمية، وكنت يومها حديث عهد بالوظيفة وراتبي القليل يتوزع بين اهلي (لم اكن متزوجاً يومها) وبين مصروفي الخاص، ولهذا حرصت اشد الحرص على الا اصرف فلساً واحداً في غير مكانه، بل حرصت على الذهاب الى مقر عملي في الاعظمية سيراً على الاقدام!
لفت نظري وانا اقطع الطريق الى دائرتي، صاحب محل متواضع لبيع الأحذية، قريب من بيتي، يحتفي بي احتفاء عظيماً، كلما القيت عليه تحية الصباح او المساء، ويخاطبني بمفردة (ستاد)، وحصل ذات مرة أن استوقفني وقال لي  (اكو خوش وجبة احذية وصلتني ستاد وأول ما فكرت بيك)، ولم اتحرج عن اخباره، ان اوضاعي المادية ليست على ما يرام، فغضب الرجل، وضرب صدره بجمع يده وقال لي بصوت موشوم بالرجولة (مو عيب هذا الكلام ستاد.. كلك فلوس ..شوكت يصير عندك.. بعد شهر.. شهرين.. سنة.. ماكو مشكلة.. المحل محلك)، واشتريت الحذاء، وأنا اسأل نفسي باستغراب : لماذا حذرني أصدقاء المحلة من التعامل مع هذا الرجل، مع انه انسان شهم ؟
في صباح اليوم الثاني، وقبل ان القي عليه التحية، سمعته يخاطب اهل السوق بأعلى صوته (يا جماعة ..تره شباب هاي الأيام ما يسوون فلسين.. يجون حفاي للمحل، ويتوسلون على قندرة.. وبعدين يغلسون على الدين.. والقهر.. كل واحد منهم يتصور نفسه ستاد!).
اقسم بشرفي، لا احد غيري مقصود بهذه 
الافتتاحية الصباحية، ولا احد غيري كان يتصبب عرقاً من تسريحة شعره الهتلرية الى حذائه الجديد، وفي ما كان أصحاب المحال الأخرى يضحكون، كنت اسرع الخطى الى مقر عملي، اذ اقترضت مبلغ الحذاء، واعطيته عند عودتي ظهراً الى الرجل الذي فاجأني قائلاً: (ستاد شلون حقائب جلدية وصلتني، افضل نوعية، وأول ما فكرت بيك.. واذا على الفلوس.. ولا يهمك.. بعد سنة... سنتين !)، لم اعلق بحرف واحد، ولكنني من صباح اليوم التالي غيرت 
طريقي !