علي المرهج
التفكير داخل الصندوق، يعني اتفاقك مع كل متبنيات وموروثات مجتمعك العقائدية والاجتماعية، تعيش معها وتدافع عنها وكأنها حقائق مطلقة.
الصندوق هو حياتك التي عشتها في مجتمع ما وانبريت للدفاع عن موروثات مجتمعك، لا التشكيك فيها، لتكون أنت بكل ما تحمله من فكر أداة ووسيلة للتبرير لا التفنيد بتعبير (كارل بوبر)، فكل شخص ينشأ في مجتمع ما يظن أن معتقادت مجتمعه هي الأفضل، وينبغي له الدفاع عنها، وهذه ميزة العقائدي والأيديولوجي الذي لا يرى من الحقيقة سوى اتجاه واحد، ينطبق عليه توصيف (ماركيوز) بتعبيره (الإنسان ذو البعد الواحد).
العيش في الصندوق، يعني أنك لم تر الدنيا بكل ما فيها من تنوع واختلاف، فصرت كأنك خنزير يسير باتجاه واحد، وكأنك منوم اجتماعياً، بتعبير علي الوردي، وحالك كحال المنوم مغناطيسياً لا يمتلك القدرة على اتخاذ قرار.
إن كُنت من الذين لا يقبلون مغادرة صندوق الحياة التي أنت صرت ونشأت فيها، فلا يعني ذلك غياب عقلك بالكامل، فهناك مبدعون أنتجوا سردياتهم الكبرى من داخل الصندوق، فكبار الشعراء والفلاسفة الذين تماهى خطابهم مع خطاب السلطة أبدعوا في حدود المتاح لهم من حرية داخل الصندوق، ولك أن تتخذ مثالاً على رؤيتي هذا ما أبدعه عبدالرزاق عبدالواحد من شعر يشهد له، حتى المخالف معه بأنه من أفضل ما كتب الشعراء، وهو داخل الصندوق، ولم يتجاوز صندوق السلطة، ولكنه حر بتوظيف مفردات اللغة بما يمتلكه من طاقة إبداعية ليجعل من الصندوق فضاء لإنتاج المعنى.
كل طاقة إبداعية سواء أكانت داخل الصندوق أو خارجه، لا بُدّ أن تخرج، ولك أن تنظر لكل إبداعات الكتاب والفنانين الروس أيام ستالين وأيام النزعة الاشتراكية في الحكم الديكتاتوري، بل ولك أن تكشف عن قيمة ما أنتجه الشعراء والمطربون أيام الحكم الديكتاتوري لصدام، فقد كتبوا أشعاراً ونسجوا موسيقى للحرب وغيرها تتغنى بالقائد الضرورة، ما لم يستطع الكثير من الشعراء والمطربين والموسيقيين من إنتاجه طوال سبعة عشر عاما.
يبدو أن الإبداع والابتكار كما فهمت لا علاقة له بمقدار الحرية، وإن كانت من الضروريات لاستكمال العلملية الإبداعية، ولكنها ظهرت وبانت حتى في أكثر فترات القمع والاستبداد السياسي.
حُلم المأمون بأرسطو ومناجاته له كان سبباً في إبداع القول الفلسفي وإنشاء (بيت الحكمة)، وعلى كل ما يُمتدح به المأمون من نزوع تنويري، إلا أنه حاكم مستبد، ولكن كل النتاج الفلسفي جاء بفضل دعمه وفيض عطائه للمترجمين والفلاسفة، واستمر الحال في مقبولية الفلسفة والفلاسفة في إيوان السلطان، ولم تنشأ عندنا فلسفة تأملية أو اجتماعية خارج إيوانات السلاطين، وهم الذي صنعوا الصندوق وأحكموا قفله، وبيدهم مفتاحه.
قليلون هم الذي فكروا خارج الصندوق، فكان مصيرهم الطرد من جنة الحياة وجمهورية إفلاطون المُثلى والمدينة الفاضلة للفارابي، فكان ابن الريوندي مفكراً خارج الصندوق في تاريخ الفكر الإسلامي.
مع نيتشة في الفكر الغربي ظهر لنا معنى التفكير خارج الصندوق، فهو لم يسعه صندوق الاجتماع والألفة البشرية، فحاول أن يُكسر صنمية هذا الصندوق الذي بدأ بتهديم جدرانه فرنسيس بيكون في نقده لأوهام المجتمع.
كُن حر التفكير تستطع الخروج من الصندوق لتُنتج حياتك الخاصة بمسؤولية ووعي يليق بك كذات متفردة.