د. كريم شغيدل
في أواخر الستينيات من القرن المنصرم، وأنت تدخل شارع الرشيد، تشعر بأن للشارع هوية، هي هوية العاصمة، أو هوية البلد بأكمله، فتجد مثلاً على ناصيته من جهة الباب الشرقي أسطوانات جقماقجي التي تعد معلماً ثقافياً وواحدة من المنصات التي أسهمت بتشكل الذائقة، بعدها تجد مدخلاً لجادة تصطف فيها محال خياطة البدلات العسكرية، ثم يأتي شارع الخيام الذي فيه سينما الخيام ومجموعة محال تجارية للأحذية والأزياء وبعض المطاعم، وعلى ناصية الشارع نفسه كان هناك معرض لبطانيات فتاح باشا المعروفة، ثم أسواق حسو المتحدة التي تعد من أول المجمعات التجارية (المولات) في الشرق الأوسط، وأسرة حسو ومنهم الجراح الشهير لبيب حسو من الأسر القليلة التي تنتمي لطائفة المسيحيين الموارنة، وهناك محال هدايا وأقمشة لسوريين وخياطون فلسطينيون، ومحال سلع حرفية تصنع من القصب يطلق عليها (القصبجية) سلال أطفال وحجلات ومهود وكماليات سيارات وغيرها لعراقيين يهود، وهناك محال لمسيحيين أرمن كهيكاز الحلاق وكربيت أبو الباسطرمة وآرتين لإطارات الصور، ومصورون معروفون كأرشاك وعبوش وتوماس، هناك محال لكرد وفيليين وعرب سنة وشيعة، وصابئة مندائيون، وأيزيديون، في قمة التعايش السلمي، بكل ما تقتضيه أسس الجيرة والمصالح التجارية والاحترام الإنساني للخصوصيات والمعتقدات والطقوس والمناسبات، كذلك حين تدخل إلى مناطق كالكرادة أو بغداد الجديدة أو ميسلون أو البلديات، حين كان المسيحيون يشكلون نسبة واضحة من السكان، الآن وبعد كل ما حدث إبان حقب الحروب والحصار ثم سقوط النظام المباد من هجرات وعمليات تهجير، فقدت هذه المناطق هويتها.
تحول شارع الرشيد إلى سوق شعبية للعدد والمكائن والأدوات الاحتياطية والدهون، فلا محال بمثابة ماركات تجارية معروفة، ولا مسيحيون ولا صابئة ولا أيزيديون ولا يهود، ولا محال أحذية أو أزياء لها زبائن من طراز خاص، لم يعد الشارع صالحاً للتبضع من قبل العائلات البغدادية، امحت آثاره كالمقهى المربعة أو البرازيلية أو البرلمان، وأغلقت دور السينما فيه كالزوراء وروكسي والرشيد وغيرها، وأغلقت المكتبات كمكتبة مكنزي والنهضة ومكتبة يوسف اليهودي والمكتبة العلمية، ومسخت هويته، فكيف ومتى تعاد لشوارعنا هويتها العراقية؟.