توقف الزمن التربوي

آراء 2021/02/06
...

 د. مزهر جاسم الساعدي 

لم يكن في يوم من الأيام التلميذ والطالب العراقي مترفا ليتخذ من المدرسة مكانا للتسلي واللهو ومن ثم يتحصل على الشهادة التي يريد، إنما كان مثابرا ومجدا لا ينالها إلا بعد أن يتسلح بالعديد من العلوم والمعارف، إن كان برغبة ودراية منه أو بكونها من المقررات التي عليه معرفتها واجتياز الاختبارات التي تخص كل منها.

 
 
يأتي ذلك كله في وقت كانت فيه قضية تحصيل العلم والتعليم ليس أمرا متاحا للجميع بكون اغلب الأسر العراقية في الستينات والسبعينات وحتى قبل ذلك من القرن المنصرم، تعاني من قسوة العيش والظروف الصعبة وتفشي الأمراض والأمية والجهل، وعلى الرغم من ذلك فإن أولئك ألاميين يدفعون بأبنائهم إلى المدرسة والى الدراسة وان كلفهم ذلك التقصير أو القصور في الجوانب المعيشية الأخرى، ايمانا منهم بأهمية التعليم وتسلح أبنائهم بشهادة دراسية قد تنفعهم في مسيرة حياتهم . 
ربما يضطر العديد من التلاميذ والطلبة إلى العمل المضني والشاق لأيام طويلة في العطلة الصيفية أو الربيعية، كي يتحصل على ما يؤمن له مصروفاته اليومية خلال أيام العام الدراسي، معتمدا بذلك على نفسه ومفضلا كل ذلك التعب على ألا يتخلف عن أقرانه الذين يشابهونه في الظروف.
وحين يكمل التلميذ المرحلة الابتدائية كأنه اجتاز عقبة كبيرة أولى من العقبات، التي عليه تخطيها لتنفتح له آفاق جديدة يرسمها في مخياله، لذلك كان يكتفي بعضهم بهذه الشهادة ليصبح موظفا في مؤسسات الدولة أو المؤسسات المملوكة للقطاع الخاص، بكونه حاملا للشهادة الابتدائية نظرا لما تمثل من ثقل معرفي، فضلا عن كونه قد اجتاز مرحلة تعليمية ليس بمقدور بعض أقرانه العبور منها. 
كل ذلك كان يجري في ظل نظام تربوي أسس على أرضية صلبة ومتينة يفخر بها العراق حينذاك، استطاع من خلالها رفد العديد من البلدان العربية بالمعلمين والمدرسين، فضلا عن قبول كبرى الجامعات العالمية للطلبة الذين يلتحقون فيها من العراق في المجالات كافة دونما تشكيك في رصانة تعليمهم وشهاداتهم، وبدورهم فإن الملتحقين بالجامعات كانوا مخلصين لوطنهم، إذ كان اغلبهم يعود ليسهم في نهضة وعمران العراق .
لذلك كان العراق رائدا في مجالات عديدة (الطب، الهندسة، الصناعة وووووو) غير أن هذا الأمر لم يدم طويلا وتوقف عند بداية الثمانينيات من القرن المنصرم، وبدأ العد التنازلي للتربية والتعليم، إذ انقطع العراق عن العالم وانشغل بمشكلاته الداخلية والخارجية، التي أثرت بالسلب في جميع نواحي الحياة، لاسيما منها الجانب التربوي واستمر إلى يومنا هذا، حتى صرنا نصنف بأننا بلد بلا تصنيف من بين بلدان العالم، قد يصح هذا ويبدو أمرا طبيعيا في بلدان لم تشهد نهضة تعليمية وتربوية في مراحل تشكلها ونموها، لكن لا يصح ولا يمكن لبلد مثل العراق أن يكون على هذا النحو من التراجع التربوي ويرتضيه القائمون على رأس المؤسسة التربوية، وما حصل العام المنصرم خير دليل على ما نقول ونعتقد به، فماذا يعني أن يتوقف عام دراسي عند ربع المقررات الدراسية؟ وماذا يعني انك تعطي أدوارا متلاحقة بثلث درجة النجاح؟ هذا يعني انك أمام افتراضين رئيسين من بين افتراضات عديدة :
الأول: إن جميع المقررات الدراسية مبنية بشكل غير تراكمي وغير علمي يستطيع الطالب والتلميذ أن يجتر ما يشاء منها للحصول على درجة النجاح وان كانت 35 بالمئة تمكنه من الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى، من دون النظر إلى فقدانه إلى الكثير من المعارف والحقائق العلمية، التي تخص مرحلته وهذا يعني أن دخول الطالب إلى الجامعة لن يتأثر كثيرا بما فقد من مقررات تتطلبها المرحلة الجامعية، وان كانت ضمن المجموعة الطبية أو الهندسية.
و الثاني: الذي يذهب أصحابه بقولهم إن المقررات الدراسية هي بعكس ما توصف بعدم العلمية والتراكمية وأنها مبنية بشكل رصين تؤهل الذي يجتازها إلى دخول الجامعة، وهذا يعني أن الجامعات ومخرجاتها تغص بالمشكلات الكبيرة، بحيث لا تستطيع أن توفر لمؤسسات الدولة الخريج القادر على فهم الوظيفة العامة ومتطلباتها العلمية التي تبني تلك المؤسسات . 
إن هاتين القضيتين هما ابرز ما يدور النقاش حولها من بين قضايا أخرى، وكأننا نردد مقوله (البيضة من الدجاجة أم الدجاجة من البيضة) فهل مدخلات وزارة التربية فيها الخلل الكبير الذي لا يجاري المادة العلمية في الكليات، بحيث لا يمكن للأستاذ إلا اختصار مادته على شكل (ملزمة) تمكن الطلبة من النجاح، أم أن مخرجات الجامعة العراقية صارت ملوثة ومشوهة لا تستطيع تخريج طالب قادر على أن يحافظ على هيبة ما تلقاه من معارف وعلوم وحقائق يستطيع تنفيذها على الأرض؟.
يبدو إننا في العراق وكأنه قد توقف عندنا الزمن التربوي وصارت معظم اهتماماتنا بالكيفية، التي نرقع فيها ما اتسع من فتق، وصار الاستسهال بإصدار القرارات التربوية والحصول على الشهادة، هي السمة التي ميزت الأعوام المنصرمة ليس بكون هذه القرارات نابعة من مصلحة تربوية حقة، إنما بكونها استجابة مطيعة لرغبات تأتي من خارج المؤسسة التربوية تحاول امتصاص النقمة الشعبية على تردي الواقع التربوي. وان كان ثمنها المزيد من الشهادات التي يتحصل عليها العديد من الطلبة التي لم تنفع وتشفع لهذا النظام التربوي، لأن معظمها لا تعمل خارج حدود العراق، بل حتى في داخله بعكس شهادة السادس الابتدائي، التي كان يتحصل عليها التلميذ حينذاك وتكسبه المزيد من الاحترام الوظيفي 
والمجتمعي.
 قد يحتج بعض القائمين على رأس المؤسسة التربوية بقولهم إن طلبتنا حين يلتحقون في جامعات العالم يتحصلون على درجات مميزة بين أقرانهم، وهذا دليل على رصانة مناهجنا وطرائق تعليمنا، وهنا اجترح ما قاله عالم الاجتماع العراقي المرحوم (متعب مناف) إن العراقي بطبيعته إذا تهيأت له ظروف المصالحة مع السلطة، فيكون مبادرا ولا يكون فردا ازدواجيا كما يصفه المرحوم الوردي، وبذلك لا يكون شأنه إلا التفوق والتفرد، وهذا عينه الذي نراه عند طلبتنا في جامعات العالم، إنهم كأفراد مبادرون ومخلصون لأنفسهم، لذلك يأتي تفوقهم من بين إقرانهم، وهذا لايعني أبدا أننا نساير العالم الذي يقفز قفزات كبيرة في المجال التربوي، بل أن قناعتنا التي تقر برصانة مشروعنا التربوي هي عينها التي تحيل تطويره وإعادة بنائه إلى اثر بعد عين ، وما علينا إن أردنا العودة إلى رصانة التعليم في العراق إلا أن نبدأ؟
وإذا بدأنا فعلينا الإجابة عن السؤال (لماذا توقف الزمن التربوي في العراق؟)