مشكلة صنع السياسات العامة في العراق

الثانية والثالثة 2019/02/03
...

ابراهيم العبادي
 

اختلف الناس ساسة وغير ساسة بشأن جدوى سياسات واجراءات ومواقف اتخذتها رئاسة الحكومة في الاونة الاخيرة، فقد اختلفوا في جدوى تشكيل مجلس اعلى لمكافحة الفساد، واختلفوا بشأن اتفاقيات اقتصادية مع الاردن تتضمن اعفاءات جمركية للسلع الاردنية ومد انبوب لتصدير النفط العراقي من البصرة الى ميناء العقبة الاردني، وتصدير نفط خام باسعار مخفضة الى الاردن، واختلفوا بشان زيادة التبادل التجاري مع ايران وتركيا، كما يختلفون الان بشان وجود قوات اجنبية على الارض العراقية ويتحمس قادة ونواب لطرح مشروع في البرلمان يلغي رخصة تواجد عسكريين اجانب لاسيما الاميركان على ارض العراق الا في حدود ضيقة جدا، والاختلاف في وجهات النظر في انظمة ديمقراطية امر شائع ومحمود، لكن من غير المعقول ان يؤدي الاختلاف الى تقييد وتجميد وعرقلة السياسات الحكومية وتعطيل اهم وظائف الحكومة وهي صنع السياسات العامة وتنفيذها بما يضمن مصالح الدولة ومواطنيها.
تعرف السياسات العامة - في واحدة من تعريفاتها - بانها برنامج عمل حكومي يتضمن الاجراءات والافكار والقواعد التي تلتزم الحكومة بتنفيذها وتطبيقها في المجتمع باعتماد مجموعة من الاساليب والادوات لتحقيق مصالح شعبية. لقد عانت حكومات العراق ما بعد التغيير من مشكلة عدم القدرة على صنع سياسات عامة تحظى بالدعم والمقبولية الاجتماعية وتساندها الطبقة السياسية بلا مناكفات او صراعات او ابتزاز سياسي او مادي. اذ يندر ان نجد اتفاقا عاما على مجمل الافكار والسياسات والاجراءات التي اتخذتها الحكومات، وماخلا حالات معدودة حصل فيها توافق وطني وخفتت فيها اصوات الانقسام والضجيج الاعلامي والسياسي، ظلت مجمل السياسات عرضة للانقسام والتدافع والتشكيك، بما قلص كثيرا من قدرة الحكومات على المضي بالسياسات باجواء مريحة ومساندة سياسية ودعم شعبي، ربما كانت حرب التحرير ضد داعش هي ابرز سياسة حكومية حظيت باجماع وطني، وماعداها كانت اغلب السياسات عرضة للانقسام على اساس مذهبي او قومي او طبقي او سياسي، بحيث اعاق هذا الانقسام حلحلة الكثير من المشكلات وابطأ الكثير من الاصلاحات الاقتصادية والتشريعية واضاع فرصا اقتصادية وسياسية كثيرة، كانت البلاد بحاجة اليها، لكن هل كنا نعتقد انه بامكان الحكومة ان تصنع سياساتها بلا انقسام سياسي -اجتماعي وبلا جدل اعلامي تغذيه اتجاهات ايديولوجية متعارضة؟.
في مثل ظروف النظام السياسي العراقي، حيث تتضاءل الثقة برجال السلطة ويهيمن سوء الظن الحزبي وتدار الامور بطريقة الارتجال احيانا نتيجة لضغوط سياسية واعلامية وشعبية، تاتي القرارات والمواقف والتصريحات غير ناضجة ولا مدروسة جيدا، ودون ان تستكمل  الاستشارات اللازمة، وفقا لذلك، ساد عرف بان يكون المعارضون لسياسات الحكومة  اعضاء في مجلس النواب، او خبراء قانونيين ومقدمي برامج تلفزيونية وضيوفاً دائمين، بينما تخفق الحكومة في التمهيد لسياساتها قبل ان تخرجها للعلن، فتضيع في زحمة المطالب المتعارضة والاغراض الشعبوية، ولو انها ادارت حوارا متخصصا ومهدت لافكارها ونواياها بالشرح الوافي والدراسات المعمقة، وأمنت اتصالا مباشرا بالنواب ولجانهم المتخصصة لوفرت على نفسها وعلى الشعب الكثير من النقد المؤذي والتخندق الحزبي والمناكفات
الاعلامية.
تظل البيئات السياسية القلقة عرضة لاستقطاب الجمهور سياسيا وحزبيا ومكوناتيا، وعندما يسود انقسام عمودي او افقي، يصعب تحشيد اجماع او توسيع مساحة المقبولية السياسية والاجتماعية للقرارات والاجراءات، وقد يكون اعتماد منطق الاغلبية والاقلية احد المرجحات في تمرير السياسات طالما كان امر الاجماع مستبعدا وصعبا للغاية، الا ان الغاية من صنع السياسات هو تامين المصالح العامة والرضا الاجتماعي وبالتالي لا يسوغ اللجوء الى قرارات لا تحظى بالشعبية الا للضرورات، ومن هنا كانت فائدة التصويت البرلماني على السياسات والمنهاج الحكومي، فعندما تعجز الحكومة عن اقناع البرلمان تكون قد عجزت عن اقناع الشعب وتخسر الثقة وتاتي حكومة اخرى تكمل المشوار  وتسعى لتعديل السياسات. الا العراق فان برلمانه يمارس المعارضة والموالاة في الوقت نفسه ويستطيع نائب او نائبان ان يشغلا الساحة السياسية والاعلامية بجدل لا ينتهي انطلاقا من تعارض رؤيتهما مع رؤية الحكومة، وستكون السياسات العامة وجها لوجه مع  معارضة عنيدة طالما بقي التفاهم والحوار بين مجلس النواب والحكومة والمجتمع المدني يدور في ساحة الاعلام وأغراضه ومموليه.