أولئك الذين يحكمون دولا محسوبة بين القوى العظمى في العالم، مثل الولايات المتحدة، يواجهون دائماً تحدي رؤية الصورة الكبرى كاملة. في الوقت ذاته يحتاج هؤلاء الحكام منفذاً يمكنهم من أن يطلعوا اطلاعاً معمقاً يصل الى اصغر التفاصيل عن جميع الدول في العالم. الأمر هنا أشبه بمحاولة النظر من بعيد وعن قرب، ومن الخارج وفي العمق، في اللحظة ذاتها.
الميزة التي تجعل ضابط الخدمة الخارجية بارعاً في عمله لا تختلف كثيراً عن تلك التي تجعل المراسل الصحفي بارعاً في عمله، إنها النزعة القوية لترك السفارة والخروج للاستطلاع خارج العواصم والمدن، الخروج منفرداً وحيداً كي لا يقع تحت تأثير الفكر الجماعي والإصغاء طيلة ساعات لما يتحدث به الناس في الميدان بتلقائية من دون طرح اسئلة موحية عليهم، مستعيناً ببعد النظر المتوجس الحذر في مسعاه لتشخيص أسوأ ما ينطوي عليه مكان معين ثم تحذير صناع السياسة لتجنيبهم الوقوع في نتائج سيئة بالامكان تلافيها مسبقا
في اغلب الاحيان يسود شعور بأن الحصول على المعلومات عن قرب وفي العمق مسألة مفروغ منها، وذلك بسبب الوهم الذي أوجده العصر الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي بأن من الممكن معرفة كل صغيرة وكبيرة تحدث في أقصى أقاصي الأرض أولاً بأول. كثير من الناس يخيل لهم أنهم أعلم المطلعين على ما يدور في إقليم تايغر الاثيوبي مثلاً أو منطقة ناغورني كارباخ في القوقاز لمجرد كونهم قادرين على متابعة سلسلة التقارير والمنشورات التي تظهر على موقع تويتر عن تلك الأماكن، ولكن معظمهم في واقع الحال لا يعلم إلا القليل عما يدور.
ثمة أشخاص معينون، مثل كبار صناع السياسة، يتحتم عليهم ان يكونوا على إلمام دائم بما يحدث فعلياً عند مستوى الأرض وفي جميع الأماكن. بكلمة أخرى أن على صانع القرار ان يكون عليماً وملماً بكل شيء، بيد أن الأمر المحزن الذي شهدته ابان حرب العراق هو ان اعظم القرارات كارثية، المتخذة على مستوى القمة، كان بالوسع تجنبها لو أتيح لمن في موقع السلطة أن يتوصلوا الى ما يعرفه ابسط صحفي متواجد على الارض في أبعد مكان من خلال تجربته الشخصية المباشرة.
من الواضح ان صناع السياسة لا يمكنهم معرفة كل شيء في العالم عن طريق التجربة المباشرة، بيد أنهم قادرون على ذلك إذا ما استعانوا بتجارب الاخرين، مثل ضباط الخدمة الخارجية المتمركزين في سفارات الولايات المتحدة في انحاء العالم. فدور وزارة الخارجية لا يقتصر على العمل الدبلوماسي فقط، بل ان من اساسيات وظائفها اعداد التقارير، على نحو ما كانت تفعله الصحف في أيام مكائن الطباعة والآلات الكاتبة مستعينة بملاكاتها الضخمة من المراسلين الخارجيين. النجاح في مجال الخدمة الخارجية فن شأنه شأن حسن كتابة البرقيات من مواقع بعيدة خارج السفارات بعيداً عن المدن الكبرى والعواصم. إبان عصر وزارة الخارجية الذهبي، أي قبل ظهور البريد الالكتروني الذي جعل الدبلوماسيين يرابطون في مكاتبهم لا يفارقونها، كان الفضل عائداً بدرجة كبيرة الى ترك المسؤولين، من مستوى سكرتير أول وسكرتير ثانٍ، مكاتبهم في السفارة ليعملوا على جمع التقارير وارسالها كما يفعل الصحفيون لدى تغطيتهم الاحداث.إعادة بناء وزارة الخارجية لايعني الاكتفاء بترميم الخراب الذي خلفته حقبة ترامب من خلال تسييس كل شيء فيها. كما أنه لا يعني فقط تقليل عدد السياسيين الذين عينوا بمنصب سفراء واحلال دبلوماسيين مهنيين مكانهم، او حتى رفع ميزانية الوزارة. إعادة البناء تعني، فضلا عن ذلك كله، إعادة التأكيد على وظيفة كتابة التقارير بالنسبة للخدمة الخارجية، ومن ثم التشديد على تطوير الخبرة في هذا المجال. في حقبة الحرب الباردة كان اولئك الذين تطلق عليهم تسميات “المستعربون” و”الأيدي الصينية” هم الممثلون الحقيقيون للخدمة الخارجية بألمع صورة، وذلك من خلال دمجهم معارفهم اللغوية والثقافية الذي جعلهم عناصر لا غنى عنها لصناع السياسة.
تقوم السياسة السليمة على حسن استيعاب القضايا في الأماكن البعيدة الموضوعة قيد النظر.. تعتمد على التقاط أدق درجات التفاوت وتبيّن الملامح المميّزة لحدث معين عن سواه، أو شخصية معينة عن شخصية أخرى، مهما بدا التشابه بين هذه وتلك شديداً. حدثني “هنري كسنجر” ذات مرة فقال إنه كان بلا شك الشخص المسؤول عن اتخاذ القرارات السياسية، ولكنه ما كان بإمكانه تحقيق الاتفاقيات الدبلوماسية في الشرق الأوسط لولا مشورة المستعربين والانتفاع بمعرفتهم التفصيلية بأدق التفاصيل وأصغرها.
البلاء الذي تعاني منه واشنطن اليوم هو ميلها في أغلب الاحيان الى النظر للعالم من خلال قوالب أنموذجية لمتضادات لا سبيل للتوفيق بينها.. أنظمة ديمقراطية وأنظمة دكتاتورية.. معتدلون ومتطرفون.. دول صديقة ودول عدوّة. بيد أن مهمة الخدمة الخارجية هي كسر هذه التصنيفات التركيبية ورسم صورة أخرى للعالم فيها تدرجات وظلال تباين. بذا يمكن تحقيق التقدم حتى عند التعامل مع الخصوم لأن بعض الأنظمة الدكتاتورية لا تخلو من عقليات متفتحة، في حين أن بعض الديمقراطيات غير ليبرالية. عن طريق كتابة التقارير الميدانية تصبح الخدمة الخارجية بامتياز ارقى شبكة عاملة في يد الحكومة الأميركية، لأنها تستطيع خلق فرص في مواضع لم يكن أحد ليتصور إمكانية وجودها.
بعد دراستي الخدمة الخارجية لسنوات طويلة يمكنني الجزم بأن الميزة التي تجعل ضابط الخدمة الخارجية بارعاً في عمله لا تختلف كثيراً عن تلك التي تجعل المراسل الصحفي بارعاً في عمله، إنها النزعة القوية لترك السفارة والخروج للاستطلاع خارج العواصم والمدن، الخروج منفرداً وحيداً كي لا يقع تحت تأثير الفكر الجماعي والإصغاء طيلة ساعات لما يتحدث به الناس في الميدان بتلقائية من دون طرح اسئلة موحية عليهم، مستعيناً ببعد النظر المتوجس الحذر في مسعاه لتشخيص أسوأ ما ينطوي عليه مكان معين ثم تحذير صناع السياسة لتجنيبهم الوقوع في نتائج سيئة بالامكان تلافيها مسبقاً. مجمل القول ان النجاح في مهمة ضابط الخدمة الخارجية يتطلب شخصاً استثنائياً الى اقصى ما يمكن. الأمر سيبقى دائماً على هذا الحال، ومتى ما قصرنا بحق الموهبة الأصيلة سوف تتردى نوعية الأداء في الخدمة الخارجية مهما أنفقنا من أموال.
منزلة أميركا في العالم اليوم يمكن الارتقاء بها من القمة نزولاً بطرق عديدة. فعمل الحكومة يمكن تنشيطه وإنجاحه.. ووزارة الخارجية يمكن أن تتجدد، ولكن هذا التحول يجب ان يبدأ من الأرض صعوداً.. يجب أن تكون البداية من العنصر البشري.
عن موقع “ذي ناشنال إنتريست”