محمد الحداد
لم تكن البشريةُ أكثرَ توحشاً وَبَطشاً وافتراساً مما نحنُ فيهِ اليوم.. بل ربما هي لم تكن كذلك حتى في مطلعِ فجرها الأزليّ الأول.. يوم أن كان الإنسانُ في طورِ طفوليتهِ وبدائيتهِ يمارسُ القتلَ بشكلٍ همجي ويعتنقهُ مثلَ طقسٍ وثنيٍّ مُقدّس.
اليوم.. في زحمةِ حَشرجةِ الحناجرِ المبحوحة ببكائها وحزنها ويأسها بتنا نسمعُ أصواتا كثيرة تتعالى وهي تسألُ بحيرةٍ وذهول: لماذا تقومُ الدنيا ولا تقعد إذا تعرضتْ أميركا أو أية دولة أوروبية إلى عملٍ ارهابي يسقط فيهِ بعض الضحايا فيما يصمُّ العالمُ كلهُ آذانهُ ويعصبُ عيونهُ ازاء دمائنا العربية التي لا تزالُ تُراق بسخاءٍ منذ سنواتٍ عديدة في سوريا واليمن والعراق وغيرها من الدول مثلَ شلالٍ هادر من دونِ أن يأبهَ لها أحد؟.
كيف لنا أن نفهمَ تلك الازدواجية المقيتة في نظرةِ العالم هذهِ وهي تزنُ المواقفَ وتكيلُ الحقائقَ بمكيالين حينما تفاضلُ من خلالهِ بين دماءٍ تُراقُ هنا وأخرى تُراقُ هناك؟، ما سرُّ كل ذلك الحَوَل الغريب في الضمير الانساني العالمي الذي يبيح لهُ أن يتبنى منطقاً انتقائياً ظالماً كهذا؟، وإلى متى سيظلُّ الدمُ العربي رخيصاً ومستباحاً لهذهِ الدرجة؟.
أظنُّ أنَّ طرحَ أسئلةٍ كهذهِ أصبح اليوم من دونِ معنى.. كأنهُ محضُ صوتٍ باهتٍ لا صدى له.. ربما لأنها أسئلةٌ عقيمة تشبهُ محاولةً عبثيةً لمنطقةِ ما لا يُمنطق.. كأنها تجهدُ بيأسٍ في استنطاقِ الفصاحة من فمٍ أخرس.. فالحقيقة الصادمة هي أن ثمة منطقاً عالمياً قديماً جديداً يُمايزُ بالفعل بين قيمة الدماء ولا يزالُ ينفردُ باستحواذهِ على الكلمةِ الفصل في مثلِ تلك المواقف منذ فجر الدم الأول.. أعني منطق الغابة المتوحش لاغيره الذي يباحُ فيهِ كلّ شيء من أجلِ الاستئثار بالمغانم فحسب.
دعونا نستحضرُ شجاعةً حتى وإن بدتْ تزحفُ إلينا متأخرة فنعترف بأن الدماءَ فعلاً ليست واحدة.. فثمة دمٌ نفيسٌ مهابٌ ومحترمٌ صُنّفَ على أنهُ دمٌ من خمسِ نجوم.. فقط لأنهُ يحملُ جوازاً أميركياً أو أوروبياً فحسب.. أما بعد ذلك فلا تفاصيل اضافية مهمة.. كأن يكونَ مالكُ جوازِ الدمِ هذا ببشرةٍ بيضاء أو سوداء أو صفراء.. جنوبي أو شمالي.. بعِرْقٍ مُعتقٍّ بترابِ ذلك البلد أم هجين طارئ عليه.. لأن التصنيفَ والتقييمَ والمفاضلة ستكونُ حينئذٍ تَبَعاً طبيعياً لصنفِ الدم المهاب هذا ما دام يسري في أجسادِ مواطنين تعرفُ بلدانهم قيمتهُ وقيمتهم.. بهذا المنطق الغريب يقيّمونَ دماءهم.
أثناءَ الحرب العالمية الثانية تناطحتْ 117 دولة في ما بينها.. حُصدتْ فيها أرواحٌ كثيرة يقالُ أنها تجاوزتْ المئة مليون ضحية تقاسمتها دول الحلفاء والمحور معاً.. ولم يكن في ذلك عَجب آنذاك إذ كان منطقُ الغابة الوحشي هو منطق العصر الذي تدينُ بهِ جميع تلك الدول.. الوحوشُ المفترسة الكبيرة تنقضُّ لتأكلَ الفرائسَ الصغيرة.. لكن السؤالَ المُحيّر هنا هو ما الذي حدثَ بعد ذلك بمجرد أن وضعتْ تلك الحرب أوزارها؟.
الحقيقة أن ما تلا تلك الحرب كان فصلاً غريباً آخر أشبهَ بالمستحيل.. ولا نبالغُ لو قلنا إنهُ كان أكثرَ اثارة وغرابة من الحربِ ذاتها.. إذ تمكنتْ جميعُ تلك الدول المتناطحة بسرعةٍ من طي كلّ صفحات الماضي.. بدمائهِ وجراحهِ ودخانهِ وأنقاضِ خرائبهِ والبدء بفتحِ صفحة سلامٍ جديدة مغايرة تماماً.. بينما كان من المتوقع ازاء ذلك ألّا تجف ينابيعُ الكراهية والحقد والثأر بين تلك الدول لمئاتِ السنين.. وبوسعنا أن نستحضرَ حدثاً قريباً يصلحُ كشاهدٍ للمقارنة.. فحينما ضربتْ يدُ الارهاب فرنسا في مسرح باتكلان أواخر عام 2015 وسقطَ يومها ضحايا فرنسيون أظهرَ العالمُ بأسرهِ حزنهُ تقدمتهم أميركا التي نكستْ أعلامها فوق بناية البيت الأبيض وجميع المباني الأميركية داخلَ البلادِ وخارجها بأمرٍ مباشر من أوباما.. وتسابقتْ دولُ العالم كلها بالتعبيرِ عن أسفها واستنكارها وشجبها للحادثِ المروّع.. لكن ما يهمنا هنا هي غيوم الحزنِ التي غطّتْ سماءَ دولٍ كانت سابقاً ضمن قوات المحور.. أعني أعداء الأمس البعيد للفرنسيين بما فيهم ألمانيا التي أدانتْ ذلك العمل الارهابي وشجبتهُ وقدّمتْ يد العون والمساندة لفرنسا.. ألمانيا ذاتها التي تزعّمتْ يوماً ما دول المحور وقاتلتْ الفرنسيين ودول الحلفاء بضراوةٍ أثناءَ الحرب العالمية الثانية وأحتلتْ وابتلعتْ النمسا وبولندا وبلجيكا وتشيكوسلوفاكيا وهولندا والدنمارك والنروج والمجر وغيرها من الدول وكبدتهم خسائرَ فادحة.. وبمقابل ذلك تبنتْ فرنسا موقفاً مماثلاً حينما سالتْ دماءٌ ألمانية مماثلة عام 2016 في أربعِ عملياتٍ ارهابية وقعتْ خلالَ أسبوعٍ واحد.. فما الذي حدثَ لتتمكنَ تلك الدول بسهولةٍ أن تشطبَ من ذاكرتها ما كتبتهُ تلك الحروب الطاحنة من جراح وتفتحَ بدلها صفحةً انسانيةً جديدة؟، هل حقاً هذهِ هي أوروبا ذاتها التي خاضتْ في ما بينها حربين كونيتين كارثيتين؟، كيف انقلبت المواقفُ هكذا ليصبحَ أعداءُ الأمسِ أصدقاءَ وحلفاءَ اليوم؟.
الحقيقة هي أن تلك الدول تعلّمتْ من أمسها الدامي البعيد دروساً ثمينة وعرفتْ قيمة الدماء التي أراقتها بطيشٍ وعبث، ومن ثم أعادتْ إليها قيمتها الحقيقية من جديد، فما بال دمائنا نحن؟، لماذا ظلَّ صنفهُ بخساً لا قيمة لهُ أبداً بل غير داخل ضمن التصنيف أساساً؟.
الحقيقة المؤسفة هي أن جراحنا النازفة تجيدُ دائماً كتابة كوارثنا بلغةٍ فصيحة لكن يبدو أنهُ لا أحدَ على ظهرِ هذا الكوكب يجيدُ القراءة.. تماماً كما لا يجيدُ أحدٌ منحَ دمائنا التقييم الانساني الذي تستحقهُ بين الدماء.. ومن المؤسفِ أيضاً أننا يوماً بعد يوم نزدادُ يقيناً أكثر من أيِّ وقتٍ مضى بأن بشريةً جديدةً أكثر توحشاً وبطشاً وافتراساً تولدُ كلَّ ساعةٍ، وأن شيئاً لن يكبحَ جماحَ شغفها النافر نحو الموتِ والفناء.. وطالما ظلت الوحوشُ المفترسة الكبيرة تنقضُّ لتأكلَ فرائسها الصغيرة فستظلُّ للدماءِ جوازات سفر تتباينُ تلك الوحوش المفترسة ذاتها في تصنيفها.