الصين تعد نفسها لنظام عالمي جديد

آراء 2021/02/28
...

   إيشان ثرور/عن صحيفة «واشنطن بوست»     ترجمة وإعداد: أنيس الصفار                                       

في يوم الأحد 13/12 الماضي شارك عداؤون من جميع انحاء العالم في سباق الماراثون الذي أجري في مدينة «غوانشو» جنوب الصين. صدم المتابعون الغربيون، لاسيما في الولايات المتحدة التي عاثت فيها الجائحة خراباً، ولهم كل الحق أن يصدموا حين رؤوا آلاف الرياضيين ينطلقون متقاربين في كتلة متراصة عبر شوارع المدينة. على جانبي الطريق احتشد المتفرجون يلوحون بالأعلام ويهتفون مشجعين من دون أن تشاهد وسط تلك الوجوه كمامة واحدة.
قبل ذلك الحدث بعام تقريباً كانت الصين هي بؤرة انطلاق فيروس كورونا، وعلى مدى الشهرين الأولين من العام 2020 طرح بعض المحللين الأميركيين حججاً تقول إن التصاعد الصاعق في اعداد الاصابات وردود الفعل الابتدائية المتخبطة من جانب السلطات المحلية في مدينة ووهان الصينية ربما ستؤسس لـ “تشرنوبل” صينية .. لكارثة ماحقة تفضح الإخفاقات الجوهرية لدولة الحزب الواحد في 
بكين.
لكن مع انتهاء العام 2020 ودخولنا العام الجديد وجدنا ان الولايات المتحدة هي الدولة التي يحوم فوقها شبح تشرنوبل.. رأينا أمة منقسمة سياسياً تجاوزت فيها اعداد الوفيات جراء الجائحة 300 ألف، وسط موجة هائلة كاسحة من الاصابات الجديدة. أياً تكن جريرة الصين الابتدائية في ظهور الوباء، والشكوك التي لا تزال تحيط بمحاسبة المسؤولين عن الوفيات والاصابات، فإن القيادة هناك لديها من الاسباب ما يجعلها تعتقد أنها تمكنت من معالجة الموقف على نحو أفضل بكثير مما فعل خصومها الجيوسياسيون في الغرب. فبعد تفشي المرض في مدينة ووهان حاصرت السلطات الصينية انتشار الفيروس بسرعة وحدّت من سعة انتشاره اكثر حين بدأت جيوب اخرى تظهر هنا وهناك.
نجاح بكين النسبي لا يطرح للمناقشة الموسعة في باقي انحاء العالم، وهذا انعكاس لمشاعر القلق المتنامية تجاه الصين وقيادة الرئيس “شيجنبنغ” باعتباره القوة الدافعة التي تهدد بهيمنة خطرة في طور الصعود. خلال العام 2020 رد نظامه بكل قسوة على اية تهديدات متصورة، وكانت مواقفه صارمة تجاه عدد من القضايا والمواقف الداخلية والخارجية.
الأمر الذي بسط ظله على كل شيء هو تداعي العلاقات الأميركية الصينية، إذ فرضت إدارة ترامب السابقة تعرفات جمركية على بعض السلع الصينية وعقوبات على بعض الكيانات الصينية، كما حاولت اقناع شركائها في أوروبا وأماكن أخرى بزرع الحواجز امام تقدم قطاع التكنولوجيا الصيني الآخذ بالتوسع، ويبدو ان الديمقراطيين والجمهوريين مقتنعون الآن على حد سواء بضرورة التعامل مع الصين على اعتبارها منافساً مصيرياً، ومن المحتمل ان يستمر هذا المنظور حتى خلال فترة الرئيس الجديد “جو بايدن”. 
أمام كل هذه العدوانية والشكوك ينكب الرئيس الصيني على الانتقال ببلده نحو عام جديد مزدهر. العام 2021 يمثل الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني وانبثاق برنامج اقتصادي خمسي جديد أعد له مخططو القيادة المركزية ببكين. ربما كان الاقتصاد الصيني قد وثب نحو التعافي أسرع من اقتصادات أي من الدول الأخرى خلال فترة الجائحة، بيد أن نموه آخذ بالتباطؤ، والرئيس “شي” يدرك بكل يقين ضرورة العثور على مرتكز انطلاق أكثر عمقاً وأرسخ وثوقاً.
في خطب عديدة له خلال العام الماضي شدد “شي” على أهمية تعزيز الصين سوقها المحلية والتحول مبتعدة عن عقود من النمو المعتمد على التصدير. يأتي هذا التوجه متوافقاً مع الطريقة التي تطورت بها القوى الاقتصادية الأكثر نضجاً في الغرب مع مرور الزمن، بيد أن التوجه الحالي يؤشر أيضاً حدوث ردة فعل تجاه المعارك الجيوسياسية التي شهدها نصف العقد الماضي.   بعض الصقور في إدارة ترامب السابقة دفعوا باتجاه ما اصطلح على تسميته “فك الارتباط”، وهي سياسة تستطيع الولايات المتحدة من خلالها تحرير نفسها من الاعتماد على السلع وسلاسل التجهيز الصينية، ولكن المهمة ليست بالسهولة المتصورة نظراً لمدى تشابك خطوط أعظم اقتصادين في العالم. أما الان فإن نظرة خصومة مشابهة للعالم آخذة بالتبلور في الصين. يؤكد مفهوم “التداول المزدوج”، الذي استعرضت تفاصيله خلال اجتماع المكتب السياسي الصيني في شهر أيار الماضي، على اهمية تعزيز الأسواق الصينية الداخلية الى جانب الاستغناء التدريجي عن سلاسل التجهيز المرتبطة بنقاط ارتكاز في اماكن اخرى، وهذا يمثل فهماً جديداً كلياً للعولمة وأين موقع الصين فيها، كما يقول “جيمس كرابتري” من معهد “لي كوان يو” للسياسة العامة. 
يقول المؤرخ الاقتصادي “آدم توز”: “مختصر الفكرة هي ان مستقبل الاقتصاد الصيني لن تشكله النظرة المبسطة القائلة بالاندماج المتجانس مع الغرب، بل سيتشكل على أساس دائرتين مستقلتين عن بعضهما الأولى محلية التوجه والثانية عالمية”. 
يعتقد كرابتري أن الرئيس الصيني قد كشف بصمت عن ستراتيجية اقتصادية تلائم أجواء الحرب الباردة الجديدة، بالنسبة للصين وللعولمة معاً، ونتائج ذلك قد تكون بالغة التعقيد. ملامح هذا التحول لا يزال من الصعب تبينها، لكنها توحي بمستقبل ستكون الصين فيه أقل استجابة لمطالب الغرب ومصالحه مما هي الآن.
نشهد اليوم تحولاً في وضع الصين الخارجي بصور أخرى أيضاً، إذ رسمت مقالة لصحيفة “فاننشيال تايمز” مساراً يبين أن إنفاق الصين الباذخ على مبادرتها الطموح المسمّاة “الحزام والطريق” قد انحدر بشدّة في السنوات الأخيرة.
يعتقد “يو جي”، الباحث في مؤسسة “جاثام هاوس”، أن العلاقات الصينية الأميركية المتقلبة، وتضيّق المنافذ المؤدية الى الاسواق الخارجية بوجه الشركات الصينية، قد أملت على كبار مخططي الاقتصاد الصينيين اجراء مراجعة جذرية لمحركات النمو.. وحين تتخذ المشاريع التي تملكها الدولة قراراً بالعودة الى الاسواق المحلية تنفيذاً لرغبات القيادة فإن ميزانية الاستثمارات الخارجية لا بد ان تتقلص تبعاً لذلك.
يعتقد المحللون في الصين ان مخاوف الغرب مما يسمى “الأنموذج الاقتصادي الصيني” مبالغ بها. فرغم الفعالية التي يبدو عليها هذا الأنموذج ودوره في نهضة الصين حتى الآن لا يزال من المهم تقييمه أولاً، ناهيك عن تقبله، على صعيد العالم خارج الصين، كما يقول “هوانغ جنغ” عميد معهد الدراسات المحلية والدولية في بكين.
ثمة جانب آخر هنا لا يقل أهمية، فعلى ضوء ثبات الصين على مواقفها وتشديد قبضة جبروتها وتسلطها يرى المؤرخ توز احتضار أوهام الليبرالية التي داعبت الغرب حين حسب أن ثقل العلاقات الصينية في العالم سوف يملي عليها تبني النهج الليبرالي لا محالة.