منى زعرور
يتأسس الإيمان الديني للفرد منذ بداية تشكل الوعي و اكتسابه للغة والمعارف ضمن محيط أسري واجتماعي حاملين لتراث تاريخي وديني محدد، تتوارثه المجتمعات المتعاقبة على رقعة جغرافية قد تضيق أو تتسع تبعاً لامتداد الإطار الديني الذي يشملها. وهذا الإيمان عادة ما يكتسب مع الطقوس الاحتفائية الأولى بالولادة وصولا إلى التعاليم المتداولة عبر ممارسة الأمور العبادية ومشاركة احتفالياتها الجماعية حتى آخر طقس من الوداع في الموت.
كما أن هذا النوع من الإيمان يعد الأكثر انتشاراً في العالم ولا يتم تجاوزه سوى في حالات محدودة، لأشخاص قرروا من خلال التفكير والتجربة اختيار إيمان بديل أو جديد عما ألفوه في محيطهم، ووفقاً لانفتاح المجتمعات أو تشددها يتم الترحيب بالاختيار الجديد وحامله أو رفضهما ومقاطعته والتضييق عليه حتى تصفيته الجسدية كحد أقصى من الرفض. وفي لحظات تاريخية لظهور مصلحين أو قادة دينيين يعملون على إعادة تشكيل وتنميط هذا الايمان بإيمان جديد أو معدّل. وبهذا المعنى فإن الإيمان الديني الفردي نادراً ما يتعرض للتمحيص والاختيار والنفي والرفض لدى حامله، كما أنه حكماً لايخرج عن إطاري الاعتماد والتقليد المتوارثين، ومن ثم فهو لا يخضع أيضاً للاختبار بالتجربتين القلبية والعقلية، ولا يتعرض حامله لمراحله المختلفة من اليقين والشك والحيرة والقلق، في وعي ذاته والعالم والله والدين، إلا في الحالات المحدودة التي تكلمنا عنها آنفاً.
لكن، وعلى الرغم من أن هذا الإيمان و عملية تشكله كما رأينا هو عمل اكتسابي بامتياز ويخضع للأطر البيئية والتاريخية للانسان، غير أنه في شكله وتشكله على وجه الدقة هو انسيابي بامتياز أيضاً، ولا يتكلف صاحبه أو محيطه أبعد من هذا في تعميق حضوره لديه. أما مع تنامي ظاهرة التدين بفعل الحركات السياسية الدينية التي تصدت للمشهد العربي والاسلامي في الربع القرن الأخير وحتى الوقت الحالي، بتنا نلحظ نوعاً مختلفاً من الإيمان وهو الإيمان الذي يمكن إدراجه تحت مسمى الإيمان الأيديولوجي، وهذا النوع من الايمان عُمل ويُعمل على تشكله في إطارات حزبية وإعلامية وفي اتصال مباشر مع الأفراد.
إذ إنه يعمل وفق آليات التبليغ والتعبئة وربط السياسي بالديني مع استحضار للتاريخ والتراث لخدمة الأيديولوجيا. وتكمن خطورة هذا النوع من الإيمان في خطورة الايديولوجيا نفسها ووظائفها. وفي هذه الوظائف، إذ يرى الفيلسوف وعالم الإنسانيات الفرنسي بول ريكور أن أي أيديولوجيا تنطلق في عملها من ثلاث وظائف تتمثل أولاً في تزييف الوعي وثانياً في تبرير الواقع الاقتصادي والسياسي لطبقتها الحاكمة وثالثاً في دمج الأفراد في الفكر الذي تطرحه أو في واقع معين. وهنا تتحدد لنا مكامن الخطر الذي يتهدد الإيمان الديني، فالايمان الايديولوجي يعمل على إفراغ الإيمان الفردي من انسيابيته ويخضعه لأشكال محددة وضغوطات تعمل على تأطيره ضمنها ويحدد من خلالها الهويّة المعيّارية للإيمان.
كما يصبح الانتماء لهذه الأيديولوجيا هو الانتماء للإيمان القويم والدين والخروج عنها خروجاً عن هذا الإيمان الأكمل وخروجاً عن الدين. وتصبح السياسات الاقتصادية والادارية والقانونية والتشريعية، متعالية عن النقد والمساءلة والمحاسبة، لأن التعرض لها هو التعرض للإيمان نفسه والمساس بها هو مساس بالدين، وينتج بذلك مقدس سياسي واقتصادي وإداري وقانوني وتشريعي ومن يعمل بهم وعليهم مقدس إضافي أيضاً. أما الخطر الأكبر الذي يتهدد الإيمان الديني مع هذا الواقع هو في فشل هذه الأيديولوجيا وانهيارها الذي من الممكن أن يحدث معه انهيار للإيمان والدين أيضاً كما يلغي التراث والتاريخ والهوية الحضارية الأصيلة.
ومن البديهي أن هذا الإيمان يربط الفرد بمنظومة مصالح ومنافع شخصية تتأتى كمكاسب دنيوية فورية مع الالتحاق بمنظومة هذه الايديولوجيا، ويصبح الاستشراس في الدفاع عنها ضروريا لحفظ هذه المكاسب في وعي ولا وعي صاحبه ما يؤصل لايمان استبدادي في نفوس أصحابها يحمل كل أشكال الهيمنة في علاقتهم مع المختلف أو الذي يتهدد هذه المنظومة، ويبرر معه كل استخدام لآليات القهر والعنف باتجاه المقابل.
كما تصبح الأبعاد الطقوسية والوظيفية والشكلية هي الأساس في هذا الإيمان وتغيب التجربة الروحية الحقيقة مع تحديد الايمان وتضييق الحدود في المحدود أزاء كل الرحابة الإلهية.
ومع انتشار هذا الايمان يُلحظ تنامي وجود منظومة فكرية سيستماتيكية تعمل على وضع أطر منظوره وغير منظورة، للفن والأدب والابداع والمفكر فيه والمسكوت عنه. حتى باتت المواضيع المطروحة والمطروقة في هذه الحقول معلومة ومحددة، و هي نفسها في كل مناسبة ومعرض وتعيد انتاج نفسها بشكل مستمر وفي كل سنة، وكل هذا ليس من باب التحريم لمواضيع أخرى إنما من باب اعتبار المواضيع المطلوبة هي الأسمى، ولتخصيص الدعم المادي والمعنوي والاعلامي لها ووضعها موضع
الأولوية.
يُضاف إلى أن الإيمان الايديولوجي لا يتوجه في خطابه لفئة عمرية محددة إنما يشمل الفئات الأصغر سناً ويعمل على تشكيل إيمانها في هذه النسخ المستحدثة والتي سيكون لها التأثيرات والنتائج والتداعيات على صورة الايمان الديني بشكله الأوسع وعلى والهوية والتراث والثقافة في المستقبل.
إن الإيمان ووظيفة الايمان لهما أكثر ما تم تناوله في البحث في بحوث الانسانيات مع الحداثة وما بعد الحداثة في الغرب، وسيتضاعف البحث فيهما مع كل استحقاق علمي وتطور هائل أو أزمات مقبلة، وستبقى الأسئلة الملحّة عن معنى الإيمان وأشكال الإيمان ووظائفه والحدود المتوقعة منه تطرق أبواب اهتمام الباحثين هناك، لكن التساؤل المركزي والمباشر الذي علينا هنا أن نفكر فيه منذ الآن ينطلق من الأسئلة الآتية: ما مصير الإيمان الديني لمجتمعاتنا في المستقبل المقبل؟، وما التغييرات والنتائج التي سيرسيها الايمان الايديولوجي على الايمان الفردي وعلى هذه المجتمعات ككل؟.
كاتبة لبنانية