د. قيس العزاوي
اعتادت دول منطقة الشرق الاوسط على ما سمي «القصف التحريكي» الذي غالباً ما يسبق بعض التسويات، فهناك الضربات الجوية التحذيرية والتأديبية والاستباقية وضربات لممارسة الضغط، ما جرى في السادس والعشرين من الشهر الماضي مثال على الضربة التحريكية، فقد هاجمت طائرة أميركية قاعدةً سوريةً (ريف دير الزور شرقي سوريا) قيل ان جماعات مسلحة عراقيةٌ موالية لإيران تستخدمها، وقد تعددت التأويلات الاميركية حول هذه الغارة وكانت على الشكل التالي:
• انها أول عمل عسكري يقوم به الرئيس الاميركي الجديد جو بايدن. وقد جاء رداً اميركيا على قيام الجماعات المسلحة «الموالية لايران» باطلاق أربعة وعشرين صاروخاً على قاعدةٍ أميركيةٍ في أربيل في 15 من الشهر الماضي، قُتِل فيها مقاول أميركي وأصيب تسعة آخرون.
• على الرغم من عزم الرئيس بايدن على اتباع دبلوماسية بديلة في التعامل مع ايران، فإنه أراد استخدام القوة باعتبارها «خطوة تصحيحيةً لإبقاء هذه الدبلوماسية فعالة» وللإيحاء بأنه يستهدف اضعاف الدور الإيراني في المنطقة.
• إن استهداف منطقة دير الزور كان بذريعة انها أصبحت مرتعاً جيوستراتيجياً رئيسياً للنشاط الإيراني في الشرق الأوسط. هذا الاستهداف ليس لعقاب الجماعات التي قصفت اربيل فحسب، ولكن لأن المنطقة بالنسبة للاجهزة الاميركية تمثل رمزاً للمكان الذي سيتم فيه بناء ما يسمى بالجسر البري الذي يربط طهران بالبحر المتوسط. وهو الجسر البري الذي عمل قاسم سليماني لانجازه .
• ولحرص الادارة الاميركية الشديد على ابقاء باب المفاوضات مع ايران مفتوحاً، فإن استخدام الأداة العسكرية لاستعادة الردع كان في حدود متواضعة جداً وصفها بعض صناع القرار الاميركي انفسهم بـأنها «غارة دفاعية» و»عمل عسكري متناسب مع الاوضاع» و «غير تصعيدي»!.
• ولغرض الاستهلاك الاعلامي فقد كشفت صور التقطت عبر الأقمار الصناعية الاميركية، عن آثار دمار هائلة خلفتها هجمات الغارة الأميركية. ولكن الواقع الميداني غير ذلك، فقد سخر من هذه الغارة الخبير في شؤون الميليشيات نيكولاس كروهلي بتغريدة وصفتها الدوائر الاميركية بـ»الوقحة» جاء فيها: «ينبغي الوقوف لحظة صمت على مصنع السمنت المهجور المصنف من الدرجة الثانية في ضواحي البوكمال». وهذا يعني أن الدمار اصاب هذا المصنع المهجور!.
أكثر المستنكرين للغارة الاميركية ليس كما يظن البعض الايرانيين ولكنهم الروس لكونهم المسؤولين على أمن الأجواء السورية، فقد دان رئيس «لجنة الشؤون الدولية في مجلس الاتحاد الروسي» قسطنطين كوساتشيف الغارة واعتبرها مظهراً للنزعة الأحادية الأميركية وتجاهلاً للقانون الدولي، وهو يخشى ان تقوض الغارة الجهود الدبلوماسية المتجددة بشأن الاتفاق بين واشنطن وطهران . واعتبرها عضو لجنة الشؤون الخارجية في «مجلس الاتحاد» السيناتور سيرغي تسيكوف «شائنة للغاية».
إن الدخول القوي لروسيا وتركيا في سوريا وليبيا سمح بتغيرات كبيرة في سياسات دول الشرق الأوسط، فلم تعد المنطقة حكراً على الولايات المتحدة والحلفاء الاوروبيين، اصبحت روسيا وتركيا لاعبين اساسيين ولهما علاقات مصالح كبيرة مع ايران، الامر الذي يؤثر في العراق والخليج، ويستدعي اعادة الحسابات في عملية تجديد الدبلوماسية الاميركية.
بداية تولي ادارة بايدن – كما يعترف مايكل نايتس الخبير بالشؤون العسكرية والامنية للعراق وايران والخليج- للمفاوضات المتوقعة بين الولايات المتحدة وايران أهمية وأولوية قصوى، الامر الذي يستدعي تنسيق اميركي اوروبي على اعلى المستويات وترميم تصدع الامن الغربي الشامل.
وبناء عليه ابلغ فريق بايدن إيران من خلال القنوات الخلفية بأن عمليات القصف على الأميركيين يجب أن تتوقف إذا أريد لمفاوضات تخفيف العقوبات الاقتصادية وغيرها أن تنجح. ان استمرار الهجمات على القواعد الاميركية يشكل احراجاً محلياً ودولياً للادارة الاميركية الجديدة التي تنوي تغيير جذري لتحالفاتها الخليجية وسياساتها الشرق اوسطية، ومن مصلحة ايران وتركيا وروسيا العمل لاجراء تسويات جديدة تضع حداً للتوترات والاحتدامات الجارية، وما اللجوء لاستخدام «الردع غير التصعيدي»إلا مقدمة لهذه التسويات.