اللجوء الى العنف أصبح ظاهرة شائعة في الوسط العام، وهي ظاهرة رهيبة تحمل في طياتها الكثير من الدلالات السلبية، انسانيا وحضاريا وقانونيا واجتماعيا، فضلاً عن اختراقاتها للخطوط الدينية الحمراء، كما انها خطيرة في النتائج والآثار على الأمن والسلم والتعايش الاجتماعي .
- 2 -
وفي ذكرى استشهاد الامام الكاظم (ع) في 25 رجب /183 هـ مسموماً في سجون هارون الرشيد، أحببنا أن نشير الى موقفه من العنف، حيث وجدناه (عليه السلام) رافضاً للعنف بشدة ومُحَذِراً منه، وناهياً عنه .
- 3 -
ويكفينا أنْ نسرد في هذه المقالة الوجيزة قضيتيْن تدلان دلالة واضحة على منهجه الرائد في رفض العنف .
أولاهما:
ان رجلاً يلقب (بالأخرس) كان يتعرض الى الامام الكاظم (ع) بالسوء، فما كان من (أحمد بن عمر الحلال) الاّ أنْ ينطلق - من موقع المحبة والولاء- للانتقام من الاخرس البذيء المتطاول، فاشترى سكينا وصمم على قتل الاخرس بمجرد خروجه من المسجد .
يقول احمد:
« فأقمتُ على ذلك وجلستُ،
فما شعرتُ الاّ برقعة أبي الحسن قد طلعت عليّ،
فيها: بِحَقيّ عليكَ لما كففتَ عن الأخرس، فانّ الله يُغني،
وهو حسبي «
ان الامام الكاظم (ع) – وهو موئل الحكمة – يأبى أنْ يُقر العنف وسيلة للتعامل مع الآخر، حتى اذا كان مسيئا وخارجاً عن حدود الشرعية ...
انّ العقلانية والموضوعية والاعتدال والتوازن يجب ان لا تغيب عن المسرح الاجتماعي العام .
والتوجه الخالص الى الله تعالى – وهو القادر الذي لا يعجزه شيء في الارض ولا في السماء – هو الكفيل بانتصار المظلوم على الظالم .
وهكذا كان .
فما مضت الا أيامٌ قليلَه حتى لَفَظَ ( الاخرسُ) انفاسَهُ الاخيرة وقد انتقم الله منه شر انتقام .
البحار /ج48 ص 263
القضية الثانية:
قضية الرجل المؤذي للامام الكاظم (ع) وكان يمارس السب والشتم لاهل البيت (عليهم السلام)
وهنا قال للامام الكاظم بعض انصاره:
« دَعْنّا نقتلْ هذا الفاجر «
ولكنّ الامام الظاكم (عليه السلام) نهاهم عن ذلك أشد النهي، وزجرهم
ثم انّ الامام الكاظم (ع) سأل عن الرجل فقيل له:
انه يزرع بناحية من نواحي المدينة،
فركب اليه فوجده في مزرعة له،
فدخل المزرعة بحماره
واتجه الى الرجل حتى وصل اليه،
ونزل وجلس عنده،
وباسطه وضاحكه،
وسأل عن مقدار ما أنفق على زرعه ؟
قال الرجل:
مائة دينار .
فسأله الامام:
كم يأمل أنْ يربح من زرعه ؟
قال:
لستُ اعلم الغيب!!
قال له الامام (ع):
( انما قلت كم ترجو أنْ يجيئك فيه ؟
قال:
أرجو أن يجيء مئتي دينار
فَأَخْرَجَ له الامام الكاظم (ع) صُرّةً فيها ثلاثمئة دينار وقال:
هذا زرعك على حاله،
والله يرزقك فيه ما ترجو .
فقام الرجل وقبّل رأس الامام، وسأله أنْ يصفح عنه،
فتبسم الامام وانصرف .
وحين ذهب الامام الكاظم الى المسجد النبوي الشريف وجد الرجل جالساً، فما كان من الرجل حين رآه الاّ أن قال ( الله أعلم حيث يجعل رسالته )
وحين سُئِل الرجل:
كيف تحوّل من خندق العداء الى خندق الولاء ؟
قال:
لقد سمعتهم قولي فيه الآن
ثم انّ الامام الكاظم (ع): سأل اولئك الذين كانوا يُريدون قتل الرجل المسيء اليه:
« ايما كان خيراً ما أردتم ؟ أم ما أردتُ ؟»
وهكذا نخلصُ الى أنّ الامام الكاظم ينبذ العنف بشكل مطلق، ويعالج الأمور بمنهج قائم على أساس الحكمة والإحسان حتى للمسيئين، مستهدفا اصلاحهم ونقلهم الى حيث يُقْلِعُون عما كانوا يجترحونه من الاساءة والايذاء .