أثنوجرافيا الخطاب الديني.. في ذكرى استشهاد الإمام الكاظم (ع)

آراء 2021/03/17
...

 د. يحيى حسين زامل
تعرّف «الأثنوجرافيا» (Ethnography): بأنّها دراسة وصفية تقريرية للعادات والتقاليد والأساليب الحياتية الشعبية، وعناصر الثقافة المادية وغير المادية للشعوب والمجتمعات المتمايزة، وتشكل المادة الاثنوجرافية قاعدة بيانات تعتمد عليها البحوث الاثنوجرافية المهتمة بخصائص السلالات وأنماط الاتصال والتفاعل فيما بينها، كما تشكل خلفية واساساً للتحليل الأنثروبولوجي (محجوب:2006،306)، وتهتم الاثنوجرافيا بدراسة ثقافات الشعوب الحية، من خلال الملاحظة المباشرة، وغير المباشرة للسلوك،
  ولقد كان هدف الاثنوجرافيا في عصورها المبكرة استكشافياً وصفياً، أما اليوم فقد اتضح لنا مدى التنوع الثقافي، وأصبح جانب كبير من البحث الميداني المعاصر مرتبط بمشكلات محددة (بيلز، هويجر: 1976،309). ويتم انتاج هذا الوصف عادة بواسطة المشاركة المطولة والمباشرة في حياة جماعة ما، وله ميزتان قد تبدوان متناقضتين: (1) أن يبتعد العالِم عن ردات فعله الثقافية والمباشرة الخاصة، ليتمكن من أن يكون موضوعياً نوعاً ما. (2) وأن يميل إلى التعاطف أو دمج نفسه مع أعضاء المجموعة لكي يكون وجهة نظر من الداخل في ما يسميه الأنثروبولوجيون «الرؤية الأمية» (Emic) (دورانتي: 2013،153). وتستثمر الاثنوجرافيا في “الخطاب الديني”، بأنها تعطينا صورة واضحة لذلك الخطاب وممارساته ورموزه ودلالاته، كما أنها تعطينا صورة شاملة وكاملة عن ذلك الخطاب . 
 
الخطاب.. المكان.. التاريخ
 يقع مرقد الإمام موسى الكاظم(ع)، مكان الخطاب الديني في مدينة الكاظمية، وهي مدينة كبيرة وعريقة، تقع في جانب الكرخ من مدينة بغداد، ويعد مرقد الامام الكاظم وحفيده الامام محمد بن علي الجواد، مركز المدينة الرئيس، واليه نسبت تلك المدينة. وتعد مدينة «الكاظمية» من المدن المقدسة في العراق، فضلا عن مدن أخرى في العراق تميزت بمدفن بعض الأئمة، أو أولياء الله الصالحين، وأخذت هذه المدينة قدسيتها بأنها مركز ديني لاحتوائها على قبري الإمامين الكاظميين، الذي يرجع نسبهما إلى الإمام علي بن ابي طالب (ع). ويرجع تاريخ مدينة الكاظمية إلى فترة الخلافة العباسية الحاكمة في بغداد، وإلى القرن الثاني الهجري بالتحديد، حيث أول ما عرفت المدينة من كونها مقبرة مهمة للأسرة الحاكمة، ولكن تغير نمط المكان بعد أن دُفن فيها الإمام الكاظم(ع)، فتحولت من مقبرة إلى مدينة آهلة بالسكان، يأتيها الزائرون من كل بقاع العالم، ولتكبر وتصبح ثالث أهم مدينة مقدسة في العراق بعد النجف وكربلاء المقدستين من حيث الرتبة والمكان.
 
الزمان.. التاريخ
 في الخامس والعشرين من شهر رجب من كل عام، تشهد مدينة الكاظمية تجمعاً ضخماً للزائرين؛ من كل انحاء العراق والعالم الاسلامي؛ عند مرقد الامام الكاظم (ع)، لإحياء ذكرى استشهاده، والذي قضى مسموماً في سجن الحاكم العباسي «هارون الرشيد»، ويتجه الزائرون من مناطق سكناهم إلى مرقد «الامام الكاظم»، مشياً على الأقدام كتقليد قديم يرجع إلى تاريخ الحادثة نفسها، حين طرح السجانون جنازة «الامام»، على جسر بغداد بعد أن قضى مسموماً، ليأخذه جمعٌ من المسلمين الغاضبين وليشيعوه في مشهد درامتيكي مشهور، ضجت له مدينة بغداد في وقتها، ويتكرر هذا الحدث المأسوي في كل عام، حيث يقيم المسلمون الشيعة في العراق والبلدان المجاورة، مجالس العزاء على الإمام كنوع من المشاركة الفعلية في أحياء هذه المناسبة، مع ربطها بالحكام الظالمين على مر العصور. 
 ولاحظ «الباحث» أن المحيين لهذه المناسبة ينقسمون، إلى قسمين، القسم الأول: هم «المشّاية»: وهم الزائرون الذي يأتون من مناطق سكناهم مشياً على الاقدام، لينتهي بهم المطاف إلى مرقد «الإمام الكاظم»، والقسم الثاني: وهم «اصحاب المواكب»: وهم الذين يقدمون الخدمات الغذائية والإيوائية والطبية للمشّاية في تلك المناسبة، وينطلق «المشاية» قبل موعد الزيارة «الحدث» بأيام، نسبة لبعد هذه البيوت عن مكان مرقد الإمام، فقد ينطلق بعض سكان المحافظات الجنوبية، قبل عشرين يوماً، او خمسة عشر يوما، بينما قد ينطلق بعض الزائرين من البلدان المجاورة ربما قبل شهر من الحدث أو المناسبة . 
 ويقدم «أصحاب المواكب» مختلف الطعام والشراب، وبكل أنواعه بشكل كبير أدهش الكثير من سكان البلدان المجاورة، إضافة لتوفير الإيواء والسكن لهؤلاء الزائرين مجاناً، وتقديم الخدمات الطبية، حيث تتواجد المفارز الطبية الحكومية والأهلية من المتطوعين لتقديم تلك الخدمات... ومع هذا لا يذهب الجميع مشياً على الاقدام، ولكن مع القدرة والاستطاعة ؛ يذهب الاغلب مشياً على الاقدام للحصول على الأجر والثواب، ومواساة «أهل البيت»؛ في مأساتهم .
 ويمر طريق المشّاية بشكل افعواني، متماشياً مع الطرق الأقرب والأسهل والآمن، وفي الطريق تنطلق من مكبرات الصوت لمواكب الزائرين، القراءات الدينية واللطميات والردات التي تناسب حدث الزيارة، وقد تسمع هذه الردة في أثناء الطريق (أويلاه أمشونه يشيع الكاظم.. أويلاه)، ليوحي للباحث أن الزيارة هي تشييع استذكاري وتكراري، يواكب مأساة الحدث الفعلي لقضية الاستشهاد، وعظمة الشخص المُستَشهَد .
 وتنوعت الاجابات للمشاركين في هذه الممارسة الشعائرية، بين من يقول «للأجر والثواب»، أو «قربة إلى الله تعالى»، و«مواساة لرسول الله، واهل بيته بهذا المصاب»، وقبل أن نمشي المفروض نعرف حق الامام ومن منا لا يسلك سلوك هارون، ولم يظلم الإمام الكاظم أو يسجنه أو يقتله تضارباً مع مصالحه وحزبه. وأن نقول له إننا على العهد باقون، لا نداهن الباطل، ولا نكون عوناً للظالمين، ولا نكون ننادي بدولة علي ونحن نعيش ترف هارون. 
 
المواكب السيّارة
 فضلا عن المواكب الثابتة، هناك مواكب سيّارة، ووظيفتها الرئيسة، هي قراءة القصائد والردات والنعي على الزائرين، وغالباً ما تكون عربة كبيرة وعالية؛ تُدفع من خلال أعضاء الموكب نفسه، وتحمل المنشدين الذين يكونون غالباً من اثنين أو ثلاثة لتبادل الادوار في القراءة والردات، وتتكون هذه العربة من طابقين يحمل الطابق الأول المولد الكهربائي وبعض الأغراض واللوازم الأخرى، والطابق الثاني يحمل مكبرات الصوت والأضواء والمنشدين، وهم يحملون القصائد في بعض الاوراق، أو القراءة من خلال جهاز «الموبايل» ( الهاتف الجوال). وفي الشارع المؤدي الى مرقد الإمام الكاظم، كان هناك أحد المواكب السياّرة، وهم ينطلقون صوب الكاظمية، وفيه أحد المنشدين، الذي يقرأ بصوت مشجي وحزين النصوص الآتية: (نشيّعها بحزن كومو (قومو) يهلها، اللي يحب الكاظم الدمعه يهلها، يذكره ويذكر الزهرة الزجية ...لهاليك... مو بس( ليس فقط) دم عيني تهل لهاليك، واسمك بالحشر يا سيدي لهاليك، اشكثر(كم) حنّيت يالكاظم لهاليك، ولا شفت (لا رأيت) الأهل حتى المنية). ثم يتلاشى هذا الموكب في وسط الزائرين من شدة الزحام، إذ بلغ عدد الزائرين في هذه الزيارة، بحسب الاحصائيات الحكومية من 5 - 6 ملايين زائر . 
 
رموز الخطاب الديني الكاظمي
 تتميز الشعائر الكاظمية بطابع خاص من حيث الرموز والمدلولات، ويرى الملاحظ المشارك طابعها المميز من خلال رموز السجن، إذ يضع أصحاب المواكب قفصاً حديدياً كرمز للسجن مربع الشكل، ومصنوعا من الحديد والسلاسل، ويضعون في داخله شخصاً مقيداً بسلاسل وحديد؛ وأمامه قرآن مفتوح يتلو فيه، وكثيراً ما يمر الزائرون به ويمسحون على رأس هذا الشخص (الرمز/ المثال) ويقبلون ايديهم او يمسحون بها على وجوههم وجسدهم، وتشاهد في داخل هذه الاقفاص الحديدية العملات الورقية؛ كنوع من المشاركة والتبرع لصاحب الموكب؛ وللصرف على الزائرين أو المشّاية المارين في الطريق الى المرقد الكاظمي. وتشاهد كذلك رموزاً لجسور مجسمه من الخشب أو الحديد، وفيها سلاسل أيضاً، وعليها جنازة (مثال) لجسد الإمام. ويمكن تحليل تلك الرموز بأنها تجسيد حي وواقعي لحادثة الامام الكاظم، يمكن لمسه ورؤيته ومشاركته طقوسياً وشعائرياً في تلك المناسبة، من خلال المثال أو التشبيه، أو الجسر، أو السلسلة، وهذه الرموز تعطي دلالة واضحة عن الواقعة المرموز اليها . وترمز «السلسلة» بوجه عام لنقيضين، وللعلاقة بين السماء الارض، وللعبودية، والنقيضان بلا شك هما العبودية والحرية اللتان تكبلهما تلك السلاسل التي كانت تحيط بيدي ورجلي الامام الكاظم، والجسر ممر وقنطرة للعبور بين جانبين، ربما الموت والحياة الجانبان الواضحان في مأساة الامام الكاظم . 
 
الخطاب الديني المكتوب
 تتوزع كذلك الصور المعبرة عن حال الامام(ع)، خاصة كونه سجيناً ومظلوماً، في حال العبادة، أو تلاوة القرآن أو رافعاً يديه للدعاء، وغالباً ما تحمل عبارات كخطاب ديني مؤثر في الزائرين من مثال: (يا راهب بني هاشم)، (السلام عليك يا باب الحوائج)، وتحتها عبارة (موكب الامام موسى بن جعفر)، و(يا كاظم الغيظ) لخدمة زوار الامام الكاظم (ع). أو صورة للإمام الكاظم وهو مقيد وبجنبه جسر طويل، وفوق الجسر جنازة، وقربها عدد من الاشخاص، وشخص واحد منكفئ عليه، وهو يبكي، وفي الصورة عبارة (موكب طريق الجنة)، وعبارة (السلام على صاحب السجدة الطويلة) في صورة للإمام الكاظم (ع) بملابس بيض، وخلفه اشعة وطيور بيض. ولافتة مكتوب عليها (موكب غريب بغداد) فيها صورة الإمام الكاظم (ع)، إضافة لصور الشهداء من الحشد الشعبي، لافتة أخرى مكتوب عليها (السلام على المسجون في قعر السجون) وعلى الجانب الأيمن (السلام عليك يا كاظم الغيظ) تتوسطها صورة الامام الكاظم مقيداً في حال الجلوس، وتحت الصورة (السلام عليك يا موسى بن جعفر)، عبارة على لافتة طويلة (تبقى شعائرنا شوكة في عيون الحاقدين). وكل هذه التعبيرات هي وصف لحال «الامام الكاظم»، فهو يوصف بأنه يكظم غيظه في اشد المواقف، ولهذا الوصف قصة معروفة، وكذلك (صاحب السجدة الطويلة)، لكونه معروفاً بسجوده الطويل، وأما عبارات «السجن» المترادفة مع اسم الامام الكاظم، إنما للتعبير عن طول السجن الذي تعرض له. وتبقى هذه الكتابات هي عبارات احتجاجية تصويرية تخاطب الجمهور، وتصور له حجم المعاناة التي تعرض لها الامام.
 
الخطاب الديني المسرحي
 في حالة فريدة لموكب في مدينة الصدر، حيث يقيم موكب (قمر بني هاشم) في قطاع (7)، مسرحية دينية، تحاكي قضية ومأساة «الإمام الكاظم» وتستذكرها، تحت عنوان «سجود وقيود»، حيث عمل افراد هذا الموكب قبل شهر تقريباً مسرحاً مكتمل الديكور و «الإكسسوارات»، على جانب الطريق المؤدي لساحة مظفر، وقبلها عمل على هذه المسرحية قبل عام من كتابة النص وإجراء التمارين و «البروفات»، كما اشار إلى ذلك أحد المخبرين(*). وفي الساعة الثامنة والنصف من ليلة 25/ رجب، بدأ عرض المسرحية على مسرح كبير يصل إلى عشرين مترا تقريباً، وينقسم إلى نصفين، النصف الأيمن يمثل قصر «هارون الرشيد» والجانب الأيسر، يمثل السجن الذي سجن فيه الإمام الكاظم، وفوق السجن عدة أبراج يقف عليها حراس يحملون رماحا طويلة. وقبل بدء العرض ازدحم الزائرون امام هذا المسرح، ليشاهدوا هذه المسرحية التي تجسد مأساة الامام الكاظم مع حكام عصره، وقد انقسموا الى فريقين، جانب للرجال وآخر للنساء، ضمن تكتل بشري، مع عدد كبير من الاطفال، المصاحبين لأهلهم في هذه المناسبة .
 والمسرح من الفنون التي تعطي الشعوب الخبرة والثقافة والتربية، وذلك بطرح الأفكار والمضامين المتنوعة، لما يمتلكه من قوة تأثيرية، يعكس الواقع وتناقضاته من خلال تعددية العلاقات بين افراد المجتمع. والنص المعروض في مناسبة استشهاد الامام الكاظم، ما هو الا تجسيد فني للحدث الكاظمي، وما يحتوي من جوانب مأساوية كحدث تاريخي يعاد تكراره من خلال الزمن الدائري، الذي يعيد احداث تلك المأساة، وتوظيف المسرح في ذلك الحدث ما هو إلا استذكار واتصال خطابي بين زمنين، الماضي الحدث التواصلي، والحاضر الفعل التواصلي، في إطار فني مؤثر وحزين. 
 
الخطاب الديني الرئيس
 يبدأ الخطاب الديني الرئيس في مرقد الامام الكاظم، حيث يجلس الخطيب، على منبر كبير وأمامه الألاف من المستمعين، وهم جالسون صفوفاً متراصة الواحد بعد الآخر، ويتكون المنبر من الصاج، وذي خمس درجات، منقوش في محيطه أسماء الائمة المعصومين، وفي الوسط عبارة منقوشة (يا كاظم الغيظ)، تحيط بالجميع نقوش لأوراق الشجر مع عناقيد العنب، وهناك عبارة أخرى مكتوبة على المايكرفون (العتبة الكاظمية المقدسة) وفي محيط المنبر ما يقارب الخمسة امتار فارغة من الناس، إلا من بعض رجال الدين الخاصين، ومحاطة بسياج خشبي عليه قماش اسود .وقبل البدء بالخطاب يتربع الخطيب على المنبر، وقد لبس عمامة بيضاء، وعباءة سوداء، وصاية سوداء، تحتهما قميص أبيض، وخلف المنبر قماش اسود يرتفع عدة امتار. فيصيح أحد الحاضرين: (أفضل الأعمال الصلاة على محمد وآل محمد)، فيصيح الجميع بصوت عالٍ جداً (اللهم صل على محمد وآل محمد).
 يقول الخطيب: عظم الله اجورنا وأجوركم ايها المؤمنون بشهادة إمامنا باب الحوائج موسى بن جعفر، السلام على المعذب في قعر السجون وظلم المطامير، ذي الساق المرضوض بحلق القيود، والمنادى على جنازته بذل الاستخفاف والهوان . 
بعض بطيبة مدفون وبعضهم – بكربلاء وبعضهم بالغريينِ
وأرض طوس وسامراء - وقد ضمنت بغداد بدرينِ
حلا وسط قبرين - بجفنين من عيني قريحينِ
يا سادتي ألمن أنعى أسىً، ولمن أبكي.. أبكي على الكاظم المسموم مضطهداً. اليوم دمعة موسوية، اليوم دمعة على الامام الكاظم، أي واسيداه أي وكاظماه، وإلى آخر الخطاب، إذ يأخذ الناس بالبكاء والتفاعل مع الخطيب. 
 
خطاب التشييع
 ترتكز اغلب مراسيم الخطاب الديني في الكاظمية على نقطة مركزية مهمة، إلا وهي «التشييع»، فالتشييع تقريباً هو الشغل الاساس في هذه المناسبة، لارتباط ذلك بالحدث الديني، والفعل والموقف والمشاركين في هذا الموقف، والغرض من الخطاب الديني في تلك المناسبة. ويمكن وصف هذا المسير مشياً على الاقدام هو تشييع من غير جنازة، ولكن هناك موكبا يطلق على نفسه «موكب جمهور الكاظمية» يمارس هذا التشييع بنعش رمزي في تلك المناسبة كإجراء سياقي يتواءم مع تلك الحادثة واستذكارها. ويرجع تاريخ هذا التشييع بحسب أحد المخبرين: إلى الأربعينيات من القرن العشرين، وكانت تأتي «گاريات» (عربة تجرها الخيول على سكة من حديد، وتسمى «الترامواي») تنقل الزوار من محطة الكرخ ومن جسر الشهداء والى الكاظمية والى سوق «الأسترابادي»، ولكن الزوار ينزلون هنا، لتبدأ المسيرة على الاقدام، وأول من قام بهذا التشييع الرمزي هو الحاج «مطلكَ الكَصيّد»، وكان هذا المكان بستان، ثم تم بناء أول بيت في هذا المكان لبيت «كَصيد»، ومنه هذا المكان يخرج موكب التشييع .
 وفي الساعة الثامنة صباحاً من يوم 25 رجب، ينطلق هذا الموكب بمسيرة تشييع، تنطلق من مقره في ساحة عبد المحسن الكاظمي، وبرئاسة الحاج «حيدر نعش» (تأتي تسمية «حيدر نعش» من نفس الفعل الذي يؤديه، وكمنصب ديني ورثه بالسبب القرابي)، الذي ورث هذا التقليد من أجداده، وإلى مرقد الإمام الكاظم ولمدة ثلاث ساعات يمر فيها بعدة أحياء من مدينة الكاظمية، ليصل تقريباً مع نهاية الخطاب الديني الرئيس في المرقد، ويضعونه قريباً من المنبر لإكمال إجراءات الزيارة. وبعد انتهاء مراسيم التعزية والتشييع، يحين وقت صلاة الظهر، ويحرص القائمون على هذه المراسيم، بانتهائها قبل صلاة الظهر، حتى لا تتزاحم مع وقت الصلاة وفضيلتها. 
 
تحليل الخطاب الديني الكاظمي
 نستطيع أن نفهم من هذا كله، أن الخطاب الذي انتجه هذا الحدث الكاظمي، كان نقطة تحول في مدينة بغداد، إذ صُنع موقف يتم استذكاره من كل عام في الخامس والعشرين من رجب، ونجد ان الحدث الذي صنعه الامام بموقفه ومنهجه الذي اتبعه مع الأمة، ليصبح قبلة للمؤمنين في الصبر على المصائب، والانتفاضة بوجه الظلم والظالم في كل زمان ومكان، ونجد كذلك التفاعل الجماهيري الكبير مع هذا الموقف، وهذه المناسبة، ليس لكونه شخصية دينية من أهل البيت فحسب، بل لأنه أنتج خطاباً خاصاً به، خطاب الرفض للظلم، وخطاب جعل من ذلك الشخص المسلوبة حريته في السجون، إلى رمز الحرية والموقف الشجاع، وجعل من ذكراه في كل عام، حافزا للملايين من الناس ليأتوا زحفاً ومشيا على الاقدام الى مرقده في الكاظمية المقدسة؛ رغم التحديات الجسام، من مصاعب الطريق والاخطار المهددة له، من منع وتفجير وتهديد من بعض الجهات المتطرفة. وهذا الموقف الشعبي ما هو الا تجسيد واقعي لهذا الحب والعلاقة مع الامام الكاظم، الذي صنع خطاباً تكرارياً، يقض مضاجع الظالمين والفاسدين، ليقيموا علاقة اتصالية وفعليه مبنية على حدث تواصلي، في سياق ديني وثقافي واجتماعي .