فانوس فلسفي في التنوير

آراء 2021/03/18
...

  علي المرهج
 
التنوير، هو محاولة للتخلص من التبعية والجهل والتجهيل، بدأ مع فلاسفة القرن الثامن عشر، وإن كانت جذوره تعود للقرن السادس عشر في ما سميَ «عصر النهضة الإنسانية»، ومن ثم لفلاسفة القرن السابع عشر، وفي مقدمتهم، ديكارت وفرنسيس بيكون، وما ميز فلسفة ديكارت هو «الكوجيتو» الديكارتي، أو تبنيه لما سميّ بالشك المنهجي، وهو شكل من أشكال إعادة بناء العقل الإنساني وفق قدرته على إدراك الوجود، وعدم التسليم بأي شيء على أنه حق ما لم يتبين أنه كذلك، وهذا الأمر يتم عن طريق الشك في كل شيء سوى الشك بالفكر ذاته، هذا النوع من التفكير جعل العقل الإنساني قادراً على رفض كل المسلمات بما فيها المسلمات الدينية، إلا بعد إخضاعها للشك واختبارها مدى صدقها منطقياً.

 
بدأ الفكر يعتمد على مقدار فهم الإنسان للعالم الذي هو فيه من دون التعكز على معطيات الغيب واللاهوت.
وقد كان لفرنسيس بيكون هذا الفضل حينما انتقد ما أسماه «أوهام العقل» أو «أصنام العقل»، وقد قسمها إلى أربعة أوهام هي:
1ـ أوهام القبيلة: وهي أوهام مجتمعية يظن الإنسان أنه قادر على فهم الوجود لوحده من دون الاستعانة بالمنهج العلمي أو ما أسماه بيكون «الأورغانون الجديد». هي أوهام خادعة لأنها تجعل الإنسان يُخضع كل شيء للحس العام أو لأهوائه ورغباته.
2ـ أوهام الكهف: وهي شبيهة بما طرحه إفلاطون في «أسطورة الكهف» فحينما يعيش الإنسان في كهفه الذي اختاره له، نجده يُخضع كل ما يأتيه من أفكار لمطابقتها لعالمه الخاص هذا، عالم الكهف، وهو ذات المفهوم الذي سمّاه كارل بوبر «أسطورة الإطار»، وهو أشبه بمن يلبس نظارة سوداء فيرى العالم أسود.
3ـ أوهام السوق: وهي أوهام تتولد من المخالطة الاجتماعية والتبادل اللغوي الذي يشبه التواجد في سوق، وهذه السوق لها ألفاظها وطرق المخاطبة بين الناس، الأمر الذي يجعل هذه المفردات المتداولة في السوق أو الحياة العامة وكأنها مقياس لمقبولية فكرة جديدة أو رفضها.
4ـ أوهام المسرح، وما الدنيا إلا مسرح كبير، وهذا يعني استبدال العالم الواقعي بعالم آخر، هو صورة له، ولكنه ليس حقيقته، وتلك أوهام يخلقها الفلاسفة اليوتوبيون والروائيون، لنعيش في هذا العالم من دون تشكيك ولا نقد ولا تمحيص.
وحين النظر لهذه الأوهام نجدها متداخلة، وقد تتوافر جميعها عند أكثر الناس البسطاء الذين ينظرون للعالم وفق مقتضيات العيش في بيئتهم الاجتماعية التي تحكم تصوراتهم.
أعادت فلسفة التنوير الاعتبار للعقل الإنساني ودوره الفاعل في معرفة الطبيعة والوجود، الأمر الذي دفع باتجاه تطور العلوم الرياضية والتجريبة، والعمل على استقلال العلوم الطبيعية عن هيمة التفسيرات الميتافيزيقية للوجود، وبدأت سلطة رجال الدين أو «الكهنوت» بالتقلص تدريجياً، ليحل العالم محله.
ساعد هذا الأمر على نمو المعرفة العلمية وازدهارها، ولم يقتصر هذا الأمر على العلوم الطبيعية فقط، بل تعداه ليشمل العلوم الاجتماعية أو الإنسانية  التي بدأت تستعين بمناهج العلم الرياضي والعلم التجريبي.
طرح «إيمانوؤيل كانت» سؤاله ما التنوير؟ وهو دعوة لتحرير العقل من التبعية والوصاية، بمعنى آخر أن «كانت» يدعو للتحرر أولاً والتعقل ثانياً، ولا تحرر ولا تعقل حينما يقبل العقل بتبعيته لآخر، على قاعدة المثل الشعبي القائل: (ما حك جلدك غير ظفرك)، أي أننا كبشر نعي حاجتنا للحرية وللتعقل بمقدار لا يعيه الآخرون وإن كانوا صادقين في نواياهم في الوصول بنا إلى ما يظنونه أنه (برَ الأمان) والحقيقة التي لا تضاد فيها مع (مُطلق الحق).
مع فلاسفة التنوير الفرنسي ارتبط التنوير «مونتسكيو» و «فولتير» و «جان جاك روسو» بالثورة والحرية، ولنا وقفة معهم.