النوروز.. ذاكرة الربيع والوطن

آراء 2021/03/22
...

 د.عبد الخالق حسن 
 
 يهتم العالم اليوم بفكرة الثقافات الشعبية، التي تمثل جزءا مهما وحيويا في الرصيد الاجتماعي لكل أمة من الأمم، لأن الثقافات الشعبيَّة تشبه الملح الذي من دونه تصبح الشعوب بلا نكهة أو مذاق، وقد خضعت الثقافات الشعبيَّة اليوم إلى طرق في البحث والتحليل، من أجل الوقوف على تفصيلاتها الدقيقة، ولعل حقل الانثروبولوجيا هو اكثر الحقول انشغالا بفهم الثقافات الشعبية، لهذا نجد أن هذا الحقل صار اليوم لا غنى عنه، من أجل فهم طبيعة الشعوب وثقافاتها، كون هذه الثقافات بما تتضمنه من اساطير وحكايات تمثل مرجعا مهما تعود اليه هذه الشعوب، كلما اصاب روحها جمود أو شعرت بالجفاف الحضاري.
ولعل فكرة الأعياد الشعبيَّة هي أحد أبرز أوجه الثقافة المحليَّة، التي تأخذ حيزا مهما من اهتمام الناس المحتفلين به، من بين هذه الأعياد هو عيد النوروز، الذي يمثل واحدا من أهم الأعياد الشعبيَّة التي تحتفل بها أمم وشعوب عديدة ومنها العراق.
النوروز هو أحد أبرز دلالات التنوع الثقافي للعراق وللعديد من البلدان غيره، وكل شعب من الشعوب يحتفل به ضمن خصوصية محددة، يفرضها الوعي الشعبي أو السرديات المتراكمة على مدار تاريخ كل شعب من الشعوب، فهو احتفال بانتصار الشعب على الظالم لدى الكرد في العراق، ولدى غيرهم من الشعوب الاخرى هو احتفال بولادة الربيع وقدومه.
النوروز في الثقافات الشعبيَّة ليس حدثا جديدا، بل يمتد إلى مئات القرون،عرفته الثقافة العربيَّة واستساغته منذ العصر العباسي، وتداوله الشعراء في قصائدهم، ومنهم البحتري الشاعر العباسي الذي قال في قصيدته التي يصف بها الربيع:
وقد نبَّه النوروز في غلَسِ الدجى.. أوائلَ وردٍ كنَّ بالأمسِ نوَّما
وهذا يعني بتحليل أولي للبيت، أن فكرة الاحتفال بالنوروز بوصفه حدثا مرافقا للربيع، هي فكرة اخذت نصيبها بالثقافة العربية من دون أي تحسس أو رفض، ولهذا اليوم الاحتفالي خصوصية في العراق بتنوع قومياته وأديانه، فالعراقيون يحتفلون به في جميع مدن أرض الوطن، حتى أنني أتذكر أن والدتي- رحمها الله- التي كانت تسميه (الدخول) تعلق الاغصان والحشائش داخل غرف البيت، من اجل استقبال الربيع، اما الاخوة الكرد، فإن هذا اليوم هو عيد وطني ومهم لديهم، لأنه يغذيهم بفكرة رفض الظلم والانتصار، اعتمادا على حكاية انتصار (كاوه الحداد) على الملك الضحّاك الظالم.
إن الشعوب التي تحترم تنوعها وتعترف به هي الوحيدة القادرة على الصمود أمام الأزمات التي تواجهها في لحظات التخلخل الاجتماعي، لهذا فإن من واجبنا جميعاً أن نحافظ على هذا التنوع الثقافي، فالشعوب التي تقتل تنوعها ستفقد جمالياتها، وتصبح بلون واحد يبعث على الكآبة.