الجسد بين أهواء الفرد وتملّك المجتمع

آراء 2021/03/22
...

 د. عدنان صبيح
هناك الكثير من المؤسسات لا تتفاعل مع ما تنتجه الدراسات الاجتماعية، خصوصا في مجتمعاتنا الشرقية، مرددين: هل هي تعبر عن ترف فكري او وجه من أوجه ممارسة الاختصاص؟، وهل لتساؤلاتها مخبر للإجابة، أم انها تترك مستقبلها في تيه لا يتجاوز السياحة المعرفية؟ دوافع تلك التساؤلات تتعلق في كون تلك العلوم تنقب في كل شيء، فلا تعد بعض الممارسات مهمة، وتترك اخريات كهوامش. بل كل ما يمارسه الانسان هو المتن الحقيقي المعبر عن دوافع تسيّره لتلك الافعال، ليكون موضوع هذا المقال اختبارا لما سبق ويترك الرد لمن دخل حيّز الفعالية كملاحظ او مكتشف.
كل الرمزيات التي يصنعها الإنسان، إضافة  الى حقائق أخرى، فإنها تعمل على مواجهة أشياء مثلت إحباطات له، وما دامت الوشوم توضع على اماكن لا يمكن ازالتها، فإنها تمثل الاحباطات الاعلى التي يواجهها الانسان، والواشمون عدا الذين يرون فيه موضة او ازياء، يواجهون مجتمعا يعتقدون بانحرافه، او يمارسون نوعا من التمرد على ارتباطات لا يؤمنون بها
دلالات ومعانٍ
كثير منّا يتساءل عمّا اذا كانت هناك رسائل يحملها الوشم على الجسد، وهل إن الموضة والأزياء كانت هي الدافع الوحيد، أم إنها تدل على أشياء أخرى؟.
 ما الذي يحمله الوشم في صاحبه؟، وما هي  العلاقة بين الوشم والطريقة الاحتجاجية؟  بعد الالتفات الى أن الوشوم كانت إحدى طرق الاحتجاج في العراق 2019، اذ وشم  المحتجون  أجسادهم برمزيات معينة، والتي تعني ابراز هذا الحدث او التاريخ ليكون رمزا جسديا يتم ذكره، او التذكير به بصورة مستمرة، فأخذوا يوشمون أجسادهم بنصب الحرية، واسم أكتوبر، أو ثورة 25 تشرين، أو علامات أخرى استعملت في الاحتجاج.
تلك التساؤلات وغيرها تدخلنا في الرمزيات المتكونة من وشم الجسد، والبحث جديا عن صفات من رسم على جسده اسما يرتبط به عاطفيا، او رمزاً يتفاخر به امام مجتمعه.
تعد الوشوم من الرموز الجسدية، التي تحمل دلالات معبرة عن الحالة التي يتبناها حاملها، فقد تكون موقفا سياسيا، او ثقافيا، وقد يكون موقفا احتجاجيا. 
 
المنع الاجتماعي والديني
لا يملك الإنسان الحق  لاستعمال جسده في أن يضيف او يقتطع أو يشوه، إلاّ في حدود أشياء وضعت لتشعرك بأنك مسؤول عن متابعته، كقص الشعر والأظافر، أو تطويلهما،  تمارس ذلك المنع الأنظمة الاجتماعية والدينية، كونه يزيد من فردانية الشخص، ويعطيه القدرة على الانفصال عن المجتمع، مما يمكن عدّها من المحرمات. 
 استعملت الاوشام في المجتمعات البولينيزية القديمة لتطويع الجسد وتحويله إلى مادة ثقافية، وهذه العبارة تعني بأن الجسد مادة طبيعية إذا تدخل الإنسان في تكييفها، أو جعلها تمتلك علامات مميزة، يعني حوّلها من الطبيعي إلى الثقافي، والطبيعي هو كل شيء لم يتدخل الانسان فيه، وبمجرد إجراء أي تعديل يصبح ثقافيا، للإنسان علاقة في وجوده. اي هي إرغام للجسد وتحويله بعلامة مميزة، ورسم هويته، كأن تكون تلك العلامة تدل على انتماء إلى جماعة ما، أو ممارسة مهنة معينة كمهنة البحارة (وهي أشهر المهن القديمة استخداما للوشوم) قبل أن تتحول إلى المشاهير.
 
الموروث الاجتماعي
 كانت الوشوم في مجتمعاتنا العربية تضعها نساء الريف في أيديهن وأرجلهن ووجوههن للزينة، وللتمايز في ما بينهن، لم يقم بها رسامون ماهرون، بل هي محاولات اقرب ما تكون الى عمل فولوكلوري، تستعمل بوخز الابر وقليل من الفحم، تحول الامر الى الشباب في المدينة، فهم يوشمون أجسادهم بأسماء ورسوم، واحيانا لفظ الجلالة أو اسم النبي(ص) او أحد الائمة(عليهم السلام)، والمفارقة هنا في أن الوشم يستعمل لمعنيين، الاول تحديا للدين (كونه مخالفا لتقاليد دينية تحرمه)، والثاني اعلان حب لرموز دينية. وكان الشباب يختارون ألبستهم بطريقة تناسب ظهور الوشوم، بل حتى من أراد ازالته، فإنه يحاول اظهار التشوه الذي حدث من خلال محو الوشم، كعلامة مميزة بأنه أزاله من أجل موقف ديني او اجتماعي، كإعلان عودة بعد ارتداد. بغض النظر عن الأسلوب الرمزي الذي يرافق تلك الأعمال وعملية اختيار الأجساد كمعبر أعلى عن ثورة احتجاج يعتقد أصحابه بأنها الأبرز، إلا أننا نريد أن نعرف العلاقة الرابطة بين الوشوم ومستعمليها، فقد يعيد الانسان بالوشوم العلاقة مع جسده، كالعلاقة الرابطة بين الانسان والحيوان، والتي تتغير بمجرد أن يضع الانسان الحبل في عنق الحيوان، بمعنى انه يصبح اكثر طيعا وتبعية لصاحبه، بل يعلن ان ذلك الحيوان تابع له ولم يكن لغيره، فهل يصبح الجسد أكثر ارتباطا وطيّعا لصاحبه بعد الأوشام؟ بل كيف يمكن لنا الشعور بأننا نسيطر على أجسادنا، أو أن تلك الأوشام تجعلنا مُلاكا حقيقيين لذلك الجسد.  ولكون الجسد منفصلا عن الانسان، وكما يقول الانثروبولوجي مارسيل ماوس إن «الجسد هو اول آلة استعملها الانسان وتم تكييفها باستعدادات معينة». يعني ذلك فعلا بأن هناك اعتقادا عند الانسان، بأن الجسد شيء منفصل عنه، هو يشبه الوديعة التي يفرض عليك ان ترجعها يوما ما بتقرير يؤكد محافظتك عليها.
 
من يمتلك الجسد؟
وما محاربة الزنا واللواط إلا وجه لعدم امتلاك الجسد وعدم القدرة على التحكم فيه، من دون اقرار اجتماعي يتيح للفرد ذلك، ولو دققنا في عقود الارتباط الشرعي (الزواج)، فإن ألفاظ العقد الذي يشرعن العلاقة بين الطرفين، لا تعدو كونها ارتباطا جسديا مثل الفاظ ( نكحتك، ومتعتك) وكأن الأشياء الأخرى غير الجسد لا تحتاج الى عقد شراكة مشرعن لها، والافراد المخالفون الذين يتحكمون بجسدهم هم متجازون على النظام، ولذلك تتم معاقبتهم من خلال الجسد بضربه او حرمانه من احتياجاته، فالجسد وسيط مبتلى بين رغبات صاحبه وعقوبات من يدعي امتلاكه.
تعد الرموز جزءا من الصناعة الرمزية، أو هي تأكيد على رمزية الجماعة وقوتها، فتعمل الوشوم على إنتاج خيال رمزي، يوفر التوازن الحيوي للإنسان في مواجهة حقائق معينة منها الموت والزمن، فبدلا من أن يأخذ الموت الجسد، خالعا كل ما يملك صاحبه، فهو يعرض على القبر جسداً يحمل جزءا مما يعتقد او يحب او يشاكس. فضلا عن كون الوشوم تثير الاعجاب فإنها تلعب دوراً في الاندماج الطقوسي والانفصال، فهي تدمج الانسان رمزياً داخل الجماعة، لكنها تفصله في الوقت ذاته عن باقي الناس والجماعات.
كل الرمزيات التي يصنعها الإنسان، إضافة  الى حقائق أخرى، فإنها تعمل على مواجهة أشياء مثلت إحباطات له، وما دامت الوشوم توضع على اماكن لا يمكن ازالتها، فإنها تمثل الاحباطات الاعلى التي يواجهها الانسان، والواشمون عدا الذين يرون فيه موضة او ازياء، يواجهون مجتمعا يعتقدون بانحرافه، او يمارسون نوعا من التمرد على ارتباطات لا يؤمنون بها. 
ولذلك فإن السبب الانسب في توجه المشاهير ولاعبي كرة القدم الى الوشوم هو انهم ارادوا القول بان ذلك الجسد الذي يميزني كلاعبٍ، محترف أو ممثل مشهور أو راقصة او مؤد حركي، لم يكن ذلك الجسد مميزا لولاي. او اني قادر على تطويعه وينتمي لي ولا ينتمي الى شيء اخر. 
فكان ذلك بابا للوقوف على حركة فئة معينة ومعرفتها كـ (متمردة، تحب الامتلاك، تشعر بامتلاك مالا يملكه الاخرون، تريد التميز حتى بعد ازالة الوشوم)، فالعلوم وجدت لتكتشف ما خفي وراء هذه الافعال، قد لم يقصدوها مباشرة، لكنها تعبر عمّا بداخلهم، بل يمكن ان تكون تميزاً لهم. فيتيح ذلك طرقاً للتعامل مع تلك الفئات بأدوات اسهل واندماج اقل ضررا، فهو مدخل مهم للتعامل مع عمليات قد تعد هامشية للكثيرين، الا أن العلوم الاجتماعية وفرت مادة  لا يستهان بها للمؤسسات المعنية، اذا ما واجهت مشكلات او حاجات تتعلق بتلك الفئات.