جواد علي كسار
في بعض تقاليد السياسة المعاصرة، إذا أُطلق وصف «السياسي العجوز» فهو غالباً ما ينصرف إلى شارل ديغول، تماماً كما يتداعى عن وصف «الوزير العجوز» اسم ونستون تشرشل. لكنْ إذا ذُكر هذا الوصف في نطاق حضارة المسلمين وتجربتهم السياسيَّة في التاريخ، تراه يُعيد إلى ذاكرتنا اسم الوزير السلجوقي أبي علي الحسن بن علي (408ـ 485ه) الملقّب بـ«نظام الملك» وبـ«تاج الحضرتين» وغيرها من الألقاب كثير.
ما ثمة شيء مهمّ يُلفت النظر في المرابع الأولى من حياة هذا الرجل في طفولته وصباه، حيث وُلد في خراسان الكبرى ونشأ فيها؛ غير الفقر المدقع، واليتم الذي نزل به باكراً وقد فقد أباه وهو في سنّ
الرضاعة.
لكنَّ العجيب المذهل في أمره، أنه لم يهن ولم ينكل ولم تخر قواه فيستسلم، بل حوّل محنة الفقر والعوز إلى طموح صاعد وعلوّ همّة، فبرع في العلوم وعمل موظفاً بسيطاً في دواوين الدولة السلجوقيَّة حتى قرّبه وزيرهم علي بن شاذان إليه، وصار من خلال ذلك قريباً إلى أمراء السلاجقة، فوزّره اثنان من سلاطينهم على دولتهم الضاربة من خراسان الكبرى إلى الشام، هما ألب أرسلان، وولده ملك شاه، واستمرّ متربّعاً على قمّة الدولة لأكثر من (30) عاماً، إلى أنْ أُغتيل في كرمنشاه، وهو في طريقه إلى بغداد.
كان يمكن لهذا الرجل أنْ يكون نسياً منسياً، لولا أثره المعرفي الذي لا يزال يشتهر به: «سياسة نامه أو سير الملوك». وهو الكتاب الذي أودعه تجربته السياسيَّة، وخلاصة أفكاره في إدارة الحكم.
بلغة الأرقام؛ صدر الكتاب بلغته الفارسيَّة مرّات لا تُحصى عدداً، مع ضبط النص وتحقيقه من قِبل أسماء كبيرة في سماء الثقافة الفارسيَّة في إيران وخارجها. كما أنَّ هذه المدوّنة المهمّة في إدارة الممالك والأدب السلطاني، تُرجمت إلى لغاتٍ عدّة من لغات العالم، منها إلى الفرنسية عام 1893م، وإلى الإنكليزية عام 1961م، وإلى الروسية عام 1949م، وإلى الألمانية عام 1960م، كما تُرجم إلى التركية أكثر من ترجمة منها عامي 1954 و1981م.
اشتغلتُ في هذا العمود على الطبعة القطرية الثانية عام 1987م، وقد استعرتها من الباحث الصديق علاء حميد إدريس، وعملتُ بشكلٍ أولي على تقصّي مقدّمتيها النفيستَيْن؛ عن حياة المؤلف ومحتوى الكتاب، قبل أنْ أنتقل لإجراء المقارنة بينها وبين أبرز المدوّنات على هذا السبيل.
والعظة؛ إنَّ الأمر لو كان بيدي، لدسستُ إلى جوار كلّ وزير وذي موقع في دولتنا الحاضرة، صحفياً مثقفاً نابهاً بل وحتى مفكراً، يُغذّيه بالفكر والمعرفة، ويرصد له تجربته مدوّنة، وهي ما سيبقى من بعده، وسلامٌ على أمير المؤمنين ما أبلغه: «عليك بمجالسةِ أصحاب التجارب، فإنها تقوم عليهم بأغلى الغلاء، وتأخذها منهم بأرخص
الرخص»!