فانوس فلسفي في الحُب

آراء 2021/03/25
...

  علي المرهج
 
إذا كان أغلب المحيطين بك لا يفقهون التعقل، فثق إنهم من النادر أن يفقهوا معنى المحبة، وقد يجتمع هذان المفهومان في الفلسفة التي تعني «حب الحكمة»، فلا معنى لتعقل مجرد من دون محبة، ولا معنى لمحبة يكون الوجدان والعاطفة هما أساس تكونها بعيداً عن التعقل. يستطيع إنسان ما العيش في وهم التعقل الصارم للوجود والعالم والحياة، ويستطيع آخر العيش في وهم معطيات الوجدان والعواطف، وكلاهما خاسر لا محالة،
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينـعـمُ
 
ومثلما تخضع القيم لصعوبة الحكم عليها بأنها ثابتة أو مُطلقة مثلما ذهب إلى ذلك عدد من الفلاسفة المثاليين والتأمليين، نجد هناك من يقول إن القيم نسبية ومتغيرة من مجتمع إلى آخر، بل من إنسان إلى آخر.
يرى العديد من الفلاسفة أن الحب حاجة غريزية تبدأ من حب الأم والأب للأولاد، والعكس صحيح، وصولاً للحب العذري، أما أنواع الحب الأخرى مثل محبة الصديق لصديقه أو محبة الأزواج لزوجاتهم أو محبتك للأقارب، فهذه محبة تأتي بعد التجربة
 والتعايش. 
وأظن أن كل أنواع الحب التي ذكرناها لا تدوم، إن كانت تعتمد على الوجدان والعاطفة فقط، حتى محبة الأسرة لبعضها، إنما تعتمد على ما يقدمه الجميع من عطاء لديمومة المحبة، القول بأن الفلسفة تعني حُب الحكمة، هو محاولة للجمع بين بعدين في الوجود الإنساني، البعد الوجداني، والبعد العقلاني!، ولكن هذا لا يعني أنني أحب الحكمة أكون فيلسوفاً مثل سقراط، ولكن الحُب هو الخطوة الأولى (الإيمانية) لنتمكن من بناء معرفة عقلية بعد سعي جاد للمعرفة الفلسفية التي تقصد الحقيقة.
لا أخوض في ما كتبه الفلاسفة عن الحُب، وهو كله لا يبرر قبول هذا المفهوم قبولاً منطقياً أو عقلياً وفق بناء استدلالي برهاني، بل هو اعتراف بوجوده كحقيقة وجودية، وعلى الفلاسفة البحث عن تبريرات عقلانية للقبول
 به.
أن تُحب أحداً، فهل يعني ذلك أنك تكره آخرين؟، لا علاقة جدلية بين الحب والكراهية، فقد تكون سجيتك الحُب، ولا تُضمر كراهية لأحد، ولكنك قد تستاء من آخرين بقدر أو آخر، لذلك يعتمد الفلاسفة في دفاعهم عن الحُب كقيمة أخلاقية لا من جهة التحقق منها نظرياً أو تجريبياً يصح تعميمه، بل من جراء الدراية بحياتنا نحن الأفراد الذين نُعبر عن قيمة الحب، وهو عندنا تجربة ذاتية لا تقبل التعميم فنحن لا نعرف ولا نستشعر مقدار محبة قيس بن الملوح لليلى، ولا عنتره لعبلة، ولا روميو لجوليت، ولا مقدار حبك لأمك أو أبيك بالقياس لحبي لأمي ولأبي، لأنها تبقى تجارب فردية تشبه إلى حد كبير التجارب الصوفية، بل والتجارب الدينية، ولذلك بقيت حوادث الحب هذه أمثلة نضربها لذهاب العقل بعد الانغماس في غمرة الحب، ولكنها تجارب فاشلة حياتياً، والجميل فيها أنها صارت للتغني بمقامات العشق وعذابات العاشقين الذين جعلوا من حياتهم حكايات، إما للتندر أو للعبرة والاعتبار، وأظن أنها عند العقلاء أحق أن تكون محطة للاعتبار وربط الحُب
 بالتعقل.
إذا دخل الحب مقام العشق، فهو يخرج عن كونه مشكلة فلسفية، بقدر ما يكون مشكلة على الفلاسفة أن يشتغلوا عليها بوصفه مشكلة إنسانية للبحث عن أجوبة عقلانية لها، أما ربطها بأبعاد لاهوتية وميتافيزيقية، فهذا أشكلة لها لا مشاركة في تفسير معناها
 عقلياً.
أعتقد أن الاشتغال بمثل هكذا مبحث في الدفاع عن الحب وجدانياً يكون أقرب لاشتغالات الشعراء والصوفية والفنانين، لأنه ضرب من ضروب الوعي الإنساني، الذي تُشكله العاطفة والشعور ويُثبته الوله والعشق. “القليل من الحبيب كثير” كما يقول
 المتنبي.