ا.د.عامر حسن فياض
مفهوم السيادة كما هي حال غيرها من الاطاريح الفكرية السياسية كالديمقراطية والعدالة والمساواة والمصلحة الوطنية والاستقلال، مفهوم لسؤال ثابت واجوبة متغيرة، وعلى المتغير الا يلغي او يكون بديلا لاغيا للثابت، كما على الثابت الا يهمل او يكون بديلا لاغيا للمتغيرات. ان مفهوم السيادة يتمتع بالخاصية التاريخية وقد التصق ظهورا باسم القابلة المأذونة له (المحامي والمفكر الفرنسي جان يودان) في كتابه (كتب الجمهورية الست) الذي نشره عام 1576 ليبرر من خلاله الحكم المطلق غير المقيد للعاهل الملكي الفرنسي شارل التاسع ليفرض سيطرته المطلقة على ادارة الشأن السياسي العام في فرنسا الكاثوليكية في اثر مذبحة ذهب ضحيتها ثلاثون ألف بروتستانتي فرنسي. غير ان مفهوم السيادة تعرض لمجموعة متغيرات وصولا الى زمن الرأسمالية المتوحشة التي روجت ثقافة الخجل من السيادة لان الاستقلال والتحرر الوطني اصبح جوهرة السيادة حتى جاءت العولمة الرأسمالية.
واذا تعاملنا اليوم مع السيادة وفق منهجية زمكانية يقتضي الحال ان نفرق ما بين السيادة البودانية (الواحدة والمطلقة وغير القابلة للتجزئة والتنازل) وبين السيادة المعولمة زمن الرأسمالية المتوحشة التي تبرر الهيمنة وعدم الخجل من التبعية للآخر الاجنبي المهيمن، بمعنى اخر ان السيادة البودانية جعلت الاستقلالية مثوبة بشرف وكرامة وطنية اخلاقيا وجوهرها حكم تسلطي مطلق سياسيا. اما السيادة في زمن الرأسمالية المعولمة فإنها جعلت من الاستقلالية مثوبة بالديمقراطية وبمشروع ثقافة الخجل من السيادة اخلاقيا وجوهرها قبول التبعية وعدم الخجل من هيمنة الاجنبي سياسيا.
عليه فإن التفكير والعمل وفق الفهم البوداني للسيادة سيذهب بنا الى القبول بالاستبداد والحكم التسلطي الشمولي، وبالمقابل فإن التفكير والعمل وفق الفهم المعولم للسيادة سيذهب بنا الى التبعية للمهيمن الرأسمالي المتوحش.وعلى اساس ما تقدم فإن الذهاب في الطريق البوداني سيكون خاطئا وكذلك الذهاب في الطريق المعولم؛ لانهما طريقان وعران فمن سيكون مع السيادة البودانية سيتهم بأنه مع الاستبداد والحكم الشمولي المطلق، ومن ينهاضها سيتهم انه مع التبعية والقبول بالهيمنة للآخر الاجنبي الرأسمالي المتوحش.
عليه فإن التمسك بالسيادة البودانية اليوم خطأ (شرعنة الاستبداد) والتمسك بالسيادة المعولمة اليوم خطأ (شرعنة التبعية) فما العمل؟.
الامر يحتاج الى معادلة صحيحة ينبغي ان تفهم وتطبق من خلالها السيادة انطلاقا من حقيقة تفيد ان السيادة حق للشعوب و واجب على الحكام. فلا سيادة بلا استقلال ولا استقلال من دون ديمقراطية ومن دون هذه الحقيقة فإن الخارج سيكون غير مسؤول عن استقلالية بلد وداخله فارغ من مستلزمات السيادة الداخلية، ومن دون هذه الحقيقة ايضا كيف ستحترم قرارات الدولة من خوارجها اذا كانت قراراتها لا تسري على دواخلها؟، بمعنى ان مستلزمات السيادة داخليا تتطلب وجود دولة لا كيان ما قبل الدولة.. كما تتطلب وجود وحدة قرار سياسي داخلي وخارجي معا لهذه الدولة. ومن هنا يأتي حرصنا على ضرورة التزامن ما بين الاستقلال والديمقراطية لكي نتلمس سيادة حقيقية ننشدها.. فلا سيادة مع الفساد.. ولا سيادة مع المحاصصة الجهوية الضيقة قوميا ودينيا ومذهبيا وحزبيا ومناطقيا.. ولا سيادة من دون حصر السلاح بيد الدولة.. ولا سيادة من دون تخوين وتجريم ونبذ المستقوي بلا خجل
بالاجنبي.. ولا سيادة من دون احترام الدستور والالتزام بأحكامه حتى من قبل واضعيه.. ولا سيادة من دون العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة.. ولا سيادة من دون اقتصاد انتاجي.. ولا سيادة من دون استقلال القضاء.. ولا سيادة لدولة من دون رجال دولة.. ولا سيادة لدولة من دون تشابك وتداخل مصالح من دون اشتباك مع وتدخل من الخارج.. ولا سيادة لدولة تنأى بنفسها عندما تتعرض مصالحها الوطنية العليا للضرر سواء من دواخلها او من خوارجها.
أخيرا ولأن المصلحة الوطنية هي جوهرة السيادة ولأننا لا نريد وجع الرأس من السيادة البودانية ولا نريد وجع التبعية من السيادة بالنهج الرأسمالي المتوحش علينا ان نجعل من السيادة حصنا للمصلحة الوطنية ومشروع تحرر وطني من كل قيود الداخل والخارج على المواطن والوطن.