ما تخبرنا به أدبيات الطاعون عن المستقبل
منصة
2021/03/27
+A
-A
مارسيل ثيرو
ترجمة: جمال جمعة
من ثوسيديديس إلى ألبير كامو، ثمة العديد من التذكيرات المفعمة بالأمل بأنه لا يوجد شيء لا سابقة له في ما يخص الإقفال في زمن الفيروس التاجي، وبأن تلك الأوبئة تنتهي بالفعل.
قبيل فترة وجيزة من إقفال لندن، في فرع هادئ بشكلٍ مخيف من متاجر ووترستونز لبيع الكتب، تمكنت من وضع يدي على (الديكاميرون) لبوكاتشيو، و(جورنال عام الطاعون) لدانييل ديفو. لكن (طاعون) كامو كان قد سلك الطريق الذي مضت فيه المعكرونة المجففة ولفائف التواليت. لم تكن هناك سوى فجوة مقفرة على الرفوف حيث كانت النسخ موجودة ذات مرة.
الدرس الأساسي لأدب الطاعون، بدءًا من ثوسيديديس وما بعده، هو كيف يمكن توقّع استجابة البشر في مثل هذه الأزمات. على مدى الألفيَّة، كان ثمة نمط ثابت للسلوك خلال الأوبئة: الاكتناز، الهلع، الخوف، اللوم، الخرافة، الأنانية، البسالة المفاجئة، التثبّت من أعداد الموتى المعلن عنهم، الملل خلال الحجر الصحي.
كان ديفو سيتعرف على تلك النزوات خلف التابلوهات الغريبة للحياة المتقطعة وسط لندن: أكداس من الجليد تذوب خارج حانات قد أغلقت فجأة. شاحنة تفرغ معدات صالة رياضيَّة في منزل أحد الأوليغارشيَّة في حي مايفير، متسوّقون متوترون مع عربات تسوّق محملة فوق طاقتها. «العديد من الأُسَر»، يكتب ديفو، «بعد أنْ توقعت دنوّ النكد، ملأت مخازنها بمؤن تكفي أسرهم بأكملها، وحبسوا أنفسهم، وهذا ما حصل بالضبط، لم يرهم أو يسمع عنهم أحد إلى أنْ توقفت العدوى تمامًا».
الحاجة المفاجئة والقوية إلى معرفة ما هو آتٍ يمكن التنبؤ بها أيضًا. ننتقل إلى الشهود التاريخيين الذين يمكنهم توضيح كيف كان يبدو عليه الأمر. كان حافز ديفو لكتابة (جورنال عام الطاعون) هو اندلاع الطاعون الدّبلي في مرسيليا عام 1720. واستباقاً لانتشاره، رغب القراء بمعرفة ما كانت عليه الحال عام 1665. ديفو، استجابة للطلب، قدّم لهم كتابًا فوريًا مصاغاً من الإحصائيات، والذكريات، والإشاعات، والطرائف، والتفاصيل الدراميَّة التي تخثّر الدم في العروق. «ماراً عبر باحة توكنهاوس في لوثبوري، انفتحت نافذة فجأة بعنف فوق رأسي تماماً، وأطلقت منها امرأة ثلاث صيحات مروعة، ثم صرخت: «الموت، الموت، الموت!».
يكاد يكون من المؤكد تقريباً أنَّ ديفو لم يشهد هذا، إذ كان عمره سيكون نحو خمسة أعوام آنذاك. لحظات روائيَّة مثل هذه ستجعل من الكتاب مفحِماً في أيّ وقت، لكنْ في الوقت الحالي فإنَّ له صلة مؤلمة. ديفو بليغ على وجه الخصوص في ما يتعلق بتصوير عدم الاستعداد والمواربة التي جعلت من تأثير الطاعون أكثر حدّة. أو على حد تعبيره: «غالبًا ما كنت أتأمل في الحالة المعوزة التي كان عليها جسد الشعب كله في بداية حلول هذه الكارثة عليهم؛ وكيف أنَّ الافتقار للدخول في الإجراءات والتدابير في الوقت المناسب، سواء كان ذلك على الصعيد العام أو الخاص، قد جلب علينا جميع الارتباكات التي تلت ذلك، وأنَّ مثل هذه الأعداد المهولة من الناس قد غرقت في تلك الكارثة، والتي لو اتُّخذت الخطوات المناسبة فلربما، بمشيئة العناية الإلهيَّة، كان قد تم تفاديها».
الكثير من سلوكيات أسلافنا في القرن السابع عشر مألوفة بشكل غير مريح. مواطنو شرق لندن يراقبون بلا مبالاة بينما يجتاح الطاعون منطقة الطرف الغربي، ويفترضون أنهم سيكونون على ما يرام. لقد أثبتوا أنهم كانوا مخطئين بشكلٍ مروعٍ. يضيف ديفو بين قوسين يثيران القشعريرة: «لقد وقع عليهم بالفعل كما يقع رجل مسلح حين أقبل».
حتى قبل نظرية الجراثيم، فإنَّ الإدراك السليم لديفو وفطنته قادتاه إلى استنتاجات سيصادق عليها كبار الأطباء لدينا. إنه يقدم تحذيرًا تنبؤياً بشأن خطر حاملي الفيروس الذين لا تظهر عليهم الأعراض: «لا ينبغي تجنب الطاعون من قبل أولئك الذين يتسامرون على هواهم في مدينة مصابة، فالناس تصاب به عندما لا يعرفون بذلك، وينقلونه بالمثل للآخرين عندما لا يعرفون أنهم بأنفسهم يحملونه».
وبينما ظل السلوك البشري ثابتًا بصورة مفزعة، فإنَّ الشيء الوحيد الذي تغير نحو الأفضل هو العلم وفهمنا له. بعد سبعمئة عام، ثمة شيء مؤثر بعمق حول وصف بوكاتشيو السابق للعلم لانتشار «الموت الأسود» في موطنه فلورنسا. «ما كان خبيثاً على وجه الخصوص في ما يتعلق بشأن هذا الطاعون هو قدرته على القفز من المرضى إلى الأصحاء عندما يكونون سوية، بمثل ما تتشبث النار بالمواد الجافة أو الزيتية التي تُقرَّب إليها. ولم يكن هذا كل شيء. فلم يكن التحدث مع المرضى فقط وقضاء الوقت معهم يصيب الأصحاء بالعدوى أو يقضي عليهم، بل أنَّ لمس ملابس المرضى أو التعامل مع أي شيء لمسوه ينقل العدوى كما يبدو». أنت تشعر كما لو أنك جمهور في مسرحية إيمائية، ترغب بالصراخ عبر القرون لإخبارهم من هو الشرير وكيف يفعل.
ليس كل أحد يستجيب للطاعون من خلال الانغماس في البيانات المتعلقة بالأوبئة. إنَّ استجابة الهروب من الكارثة هي خطوة أخرى يمكن التنبؤ بها و»الديكاميرون» جسّدتها. بعد وصفه القصير، لكن المرعب لطاعون فلورنسا، يرسل بوكاتشيو فرقته من الشخصيات الشابة إلى الحجر الصحي، حيث يقضون بقية الكتاب في تبادل قصّ حكايات مسلّية وفاحشة: الطاعون لن يظهر مرة أخرى.
توماس مان وكامو كانا أقلّ اهتمامًا بالطاعون بذاته من اهتمامهما باستخدامه للتوصل إلى نقاط وجودية. الطاعون في (الموت في البندقية) هو بشكل عام تجسيد للموت، اللغز الرهيب، الجواد الشاحب. إنه شيء يجرّد من الغرور ويكشف حقائق غير مستساغة. في رواية مان القصيرة، كان هذا هو العامل المحفِّز لانحدار فون أشنباخ المذلّ نحو تدمير الذات الفظّ. في الوقت نفسه، فإنَّ الصفحات التي تناولت وباء الكوليرا كانت بليغة وصائبة. الفنادق في البندقية كانت تفرغ بسرعة، على الرغم من الاعتراضات الرسميَّة على أنه ليس ثمة ما يدعو للقلق. إنه وكيل سفريات إنكليزي شاب شقّ طريقه أخيراً إلى البزّة الرسميَّة. الشكوك التي يثيرها حول الكفاءة الإدارية والنزاهة هي تلك التي سنكون جميعًا مجبرين على أخذها في نظر الاعتبار في الوقت المناسب. ويتابع بصوتٍ خفيضٍ وشيءٍ من الإحساس: «هذا هو التفسير الرسمي الذي ارتأته السلطات هنا ومن المناسب التمسك به».
كامو هو المتفرد الحقيقي عن بقية المجموعة. غالبًا ما تُقرأ (الطاعون) على أنها حكاية استعاريَّة عن التجربة الفرنسيَّة تحت الاحتلال، ولكن في الوقت الحالي لا يبدو أنَّ هناك شيئًا استعاريًا بشأنها: البطل، الدكتور ريو، يبدو وكأنه تصوير واقعي لعامل رعاية طبية في خط التماس، أجبر على اتخاذ قرارات مستحيلة حول من الذي سيحصل على جهاز التنفس. في لحظات تاريخية أخرى، قد يبدو التفكير المتواصل في معنى الطاعون شديد الوطأة، لكن في عام 2020 سيبكون الأمر أشبه بقراءة (البوتقة)* فيما يُحاكم والدك العجوز بتهمة السحر. لفترات تمتد طويلاً، تنسى أيّة فكرة عن الاستعارة وتتساءل ببساطة كيف استطاع كامو فهمها بشكل صحيح: من الشراء المذعور للنعناع الذي اعتقد الناس أنه سيكون وقائياً، إلى معدل الوفيات المرتفع في السجن البلدي، إلى عمّال الرعاية الصحية المنهكين، والرتابة الرهيبة للحجر الصحي، وهي أمور قد بدأنا في التعرف عليها للتو.
بعد ذلك، بالطبع، ينتهي الطاعون. هذه في الواقع هي الأخبار الطيبة التي تحملها هذه الكتب. الوباء دائماً يمضي، وأغلب الناس يبقون على قيد الحياة. ثوسيديديس نفسه أصيب به وتعافى. «سأرويها ببساطة كما حدثت»، ثم يبشّر بالطاعون الذي دمّر أثينا في القرن الخامس، «ووصف سمات المرض التي ستمنح أي شخص يدرسها بعض المعرفة المسبقة لتمكينه من التعرف عليها إذا ضرب مرة أخرى في وقت ما».
The Guardian