ما زالت الدولة لدينا تعيش صراع الإرادات ولم تنتقل بعد إلى صراع الإدارات،.. ماذا يعني هذا القول؟ يعني أننا لم نتفق بعد على نهائية الدولة التي تعني: رضا وتسليم رعايا الدولة ومجتمعياتها وقواها الفاعلة بالصيغة النهائية لبنية الدولة التي لا اجتهاد فيها أو تمرد عليها. أي أننا ما زلنا بمرحلة التأسيس للدولة ولم ننتقل بعد إلى مرحلة إدارة الدولة رغم أنَّ هناك نظاماً سياسياً ومؤسسات دولة ودستوراً قد أقُر في 2005م مهمته هي التأسيس للدولة وشكلها ونظامها وسلطاتها وهويتها، إلاّ أنَّ الاختلاف بقي خلافاً بنيوياً وليس إدارياً.

منذ الخلاص من الشمولية الدكتاتورية في 2003م والعملية السياسية تعيش إرهاصات التأسيس ولم تزل، فقوى ومكوّنات الدولة مختلفة حول الدستور والنظام والسلطة والثروة والهوية والسياسة الخارجية، إنها مختلفة على كل شيء تقريباً، حتى أنها مختلفة على الرموز السيادية من علم ونشيد وطني وشارات رسمية!! هذا هو اختلاف التأسيس الذي يقود إلى صراع الإرادات. والذي يزيد صراع الإرادات تعقيداً أنَّ التعويم والتدويل والاستلاب لقضايانا الوطنية يدخل بصميم مرحلة التأسيس، وأنَّ العنف والإرهاب وحتى الفساد والفوضى غدا جزءا من معركة كسب الدولة لقوى متناقضة الأجندات والمصالح. كل ذلك أبقى الدولة رهينة الخلاف البنيوي الذي لم يستقر وتتشكل نواته الصلبة بعد،.. ولن ننتقل إلى صراع الإدارات ما لم ننته من مرحلة صراع إرادات التأسيس للدولة كبنية وهوية.

صراع الإرادات يختزن اختلاف الرؤى والأجندات للدولة المراد تأسيسها، بينما يختزن صراع الإدارات اتفاق الأمّة وقواها على مرحلة التأسيس وخلافها على إدارته،.. صراع الإرادات يكون على حساب بنية الدولة وصراع الإدارات يكون على طبيعة إدارة ملفات الدولة (الحكم)، الأول خلاف سلبي ومدمّر، والثاني خلاف إيجابي وبنّاء.

صراع الإرادات صراع سياسي قيمي فكري حول شكل وبنية وهوية الدولة، فهو صراع مناهج يتحرك وفق أنساق الإزاحة، وصراع الإدارات صراع برامج يتحرك وفق أنساق التنافس بين قوى تتفق على الدولة وتختلف على برامج إدارتها. هذا إن كانت قوى التأسيس والإدارة قوى مسؤولة تعي مهامها الوطنية، وإلاّ غدت صراعات عبثية تتحرك وفق أنساق غريزة السلطة التي لا تعرف مصلحة عليا ولا تهتدي إلى حل تضامني.

لن يُكسب تأسيس الدولة بإرادات ظلامية أو عنفية أو انتهازية أو مرتهنة للأجنبي، ويُكسب بآباء وقوى التأسيس الوطني المحتكمة لمقومات الحكم الرشيد، وكما لا تنجح الدول بالتأسيس الشمولي الدكتاتوري الشوفيني، كذلك، لن تنجح بالتأسيس العنفي أو المكوّناتي أو الصفقاتي القائم على وفق المحاصصة والغنيمة وسياسة الأمر الواقع.

نهائية الدولة هي التي تسمح بالانتقال من مرحلة التأسيس إلى مرحلة الإدارة، ولبلوغ نهائية الدولة لابد من توافر أغلبية وطنية تتفق على النظام والهوية والمصالح وتكون ملتزمة بالدولة ومطيعة لها غير متمردة أو فوضوية، ولابد أيضاً من قوى سياسية تعي وتلزم باشتراطات الدولة لا أن تبتلعها وتصيّرها مقاطعات حزبية، ولابد كذلك من جهوزية وطهورية وجدية نخبوية تأخذ على عاتقها مهام التأسيس السياسي الاقتصادي الثقافي الإعلامي التربوي لمشروع الدولة الوليدة، لا أن تكون نخباً ناكصة متراجعة الوعي والمسؤولية والشجاعة.