الصدر الأول.. روح خالدة في سماء الوجود

العراق 2021/04/08
...

 
بغداد: هدى العزاوي / وشيماء رشيد وعمر عبد اللطيف
 
تمر على العراقيين هذه الأيام الذكرى الـ41 لاستشهاد المرجع الديني والمفكر الإسلامي الكبير السيد محمد باقر الصدر وأخته العلوية بنت الهدى (آمنة الصدر)، ففي مثل هذه الساعات من ليلة 8/9 نيسان من العام 1980، أقدم الطاغية صدام على إعدام الشهيد الصدر الأول، ليزرع ألماً وحزناً في قلوب العراقيين على مرجع ليس كغيره من المراجع، ويضيف لجراحاتهم جرحاً عميقاً لم يندمل إلى اليوم، ولئن كان كوكب الصدر قد هوى إلى أرض بلاد الرافدين باستشهاده، فإن نبض روحه الخالدة لايزال في سماء الوجود، ملهماً الأحرار المضي بنهج وطريق خطه بدمائه الزاكية.  
عضو كتلة النهج الوطني مهند العتابي أشار في حديث لـ»الصباح» الى أن «السّيد محمد باقر الصّدر كان نقطةً مُضيئةً في عتمة الصّراعات الإيديولوجية، وإذ شهدت نهايةُ السّبعينيات تدافعَ الإيديولوجيات نحو قيادةِ الحياة، مُستخدمة لذلك شعاراتٍ مُتنوّعة تحاول بها أن تحاكيَ بها حاجةَ المجتمع لحياةٍ كريمة مُتحرّرة من قيودِ الحكّام.»
وأضاف، “حينها برزت تنظيراتُ السّيد محمد باقر الصّدر التي تنوّعت من حيث الموضوعات وتمتّعت بقوّة الطّرح ومتانة المضمون، واستطاع من خلالها أن ينفذَ لمساحة الأفكار المتدافعة ويتصدّر باطروحاته تلك الايديولوجيات ليعيدها الى حيث الحقيقة والفطرة النّقيّة»، مؤكداً أن “السّيدُ الصّدر، استطاع أن يثبتَ أنَّ الإسلامَ يقودُ الحياة، وأنَّ مكنونَ التنظيرات الإسلاميّة قادر على انتشال العالم من أزمته الاقتصاديّة ويحيي الأمةَ حياةً كريمة بعيدةً عن تطاحن الملوك”.
وبين، أن “السّيدُ الصّدر استطاع أن يحدثَ طفرةً في المدرسة الدينيّة من خلال تنقية الكثير من المفاهيم وصياغة مصطلحات هي أقرب للدقّة، وكذا كان السّيد الصّدر حركياً في الساحة الاجتماعيّة وأكثر منها في السّاحة السياسيّة”، واختتم العتابي حديثه بالقول: إن “المتتبّع لتلك السيرة العطرة للسيّد الصّدر سيجد تراثاً زاخراً بالعطاء الوافر”.
 
ضد الطغيان
لم يكن الشهيد الصدر مجرد مفكر إسلامي أدخل التجديد إلى الأنماط التقليدية في الدراسات الدينية، بل أنه أحدث نقلة حركية في مجال مواجهة الاستبداد والطغيان الذي كان يمارسه النظام المباد، وأكد رئيس تيار “الفراتين” النائب محمد شياع السوداني في حديثه لـ”الصباح”، أن “الدلالات التي قدمها الشهيد الصدر هي علامات للسير على طريق الحق الذي يجب أن نسير جميعنا عليه من أجل إعلاء كلمة الحرية”.
وأضاف، أن “البطولة التي أبداها الشهيد الصدر أصبحت خارطة طريق لكل الأحرار وكسرا لقيود العبودية بتصديه لكل قوى الشر والطاغوت”، مبيناً أنه “باستقراء تاريخ الشهيد الصدر، فإننا ننطلق من زاويتين، أولاهما عندما خط تاريخه بحبر من ورق من خلال مؤلفاته الكبيرة والتي أثرت المكتبة الاسلامية جمعاء، وأخرى عندما خط تاريخه بقطرات دمه ودماء أبنائه فداء للوطن ولاعلاء كلمة الأحرار في العراق”.
وبين السوداني، أن “من أهم الأهداف التي ضحى لأجلها الشهيد الصدر، كانت الوقوف ضد الطغيان والدكتاتورية واسترداد حرية الشعب العراقي وكرامته، وإن وقوفه ضد الطاغوت كان بمثابة الصرخة المدوية لتحرير وتوحيد الشعب والامة وإعلاء لكلمة الحق”.
بدوره، قال عضو مجلس النواب سعران الأعاجيبي في حديث لـ”الصباح”: إن “الشهيد الصدر، شكّل في جميع محطّات عمره نموذجاً للعالم المجاهد، حيث كان صاحب شخصيّة ذات حضور ساطع لا تستطيع الكلمات أن تختصر مسيرتها ومساهماتها، وهي الّتي أغنت الإسلام في كلّ زمان ومكان بفكرها ونشاطها”.
وأضاف، “اننا نقف اليوم في أجواء هذه الذكرى الأليمة موقف الفخر والاعتزاز، لنستذكر حجم الجرائم التي اقترفها النظام السابق بحق العلم والعلماء وقدسية الفكر وكرامة الانسان وحرية المعتقد والجرأة على النيل من علماء الاسلام وقادته، متجاوزين بجرائمهم كل الاعراف والقوانين”. أما النائب المستقل ندى شاكر جودت، فأكدت في حديثها لـ”الصباح”، أن “استشهاد  الصدر يعد انبثاق ثورة وإحياء لمعاني الحرية للشعب العراقي الماثلة أمام العالم أجمع، ودعوة للتحرر من الطغاة والدكتاتورية المقيتة التي تكبل الشعوب وتريد أن تستعبدها”، وأضافت، أن “الشهيد الصدر وحّد العراقيين من أجل الارتقاء بواقعهم ضد الدكتاتورية والطائفية، وكانت  من أهدافه التآخي بين المذاهب في العراق، من أجل ارسال رسائل الى الدكتاتورية أنها لن تستطيع أن تفرق أبناء الوطن الواحد ولن تستطيع أن تمزق وحدة صفهم”.
 
ثروة ضائعة
عضو مجلس شورى التيار الصدري السيد ستار البطاط، قال لـ”الصباح”: إن “استشهاد المفكر العظيم السيد محمد باقر الصدر، ما هو إلا ثلمة عظيمة للثروة الانسانية والفكرية والحضارية، إلا أن العراق وفي ذلك الوقت لم يكن يقدر مثل هذه الثروات المهمة، ما حدا بالسلطة الظالمة الى التعجيل بإعدامه بعد اعتقاله بخمسة أيام فقط”.
وأضاف أن “العدل الإلهي جعل من يوم استشهاد السيد الصدر، يوماً لسقوط الطغمة الدكتاتورية التي عاثت فساداً في العراق على مدى أكثر من ثلاثة عقود”، مشيراً الى أن “الشهيد الصدر ما زال حياً واسمه لايزال نابضاً في قلوب المؤمنين وألسنهم، وذكراه موجودة في المحافل الفكرية والثقافية والانسانية، وكتبه تدرس في الجامعات العربية والعالمية، في حين أن النظام السابق وزبانيته ذهبوا 
إلى مزبلة التاريخ”.
أما الباحث في الشأن الاسلامي الشيخ صادق الحسناوي، فقد بين أن “السيد الشهيد محمد باقر الصدر أمضى سفراً طويلاً من حياته في سبيل أن يرى راية الإسلام عالية خفاقة، وأن ينعم الشعب العراقي بالحرية والكرامة ونظام حكم عادل يحفظ كرامته بين الشعوب الأخرى”.
وأضاف، أن “من المفارقات العجيبة أن تكون ذكرى يوم استشهاد الصدر هي نفس يوم سقوط نظام الطاغية المقبور، ولعل في ذلك حكمة وهي أن يوم شهادته بعد ثلاثة وعشرين عاماً يكون إعلاناً لرحيل الطغمة الباغية الأبدي عن العراق وهو أشبه بـ(انتصار الدم على السيف(“.
وتابع الحسناوي: أنه “لو عدنا الى خطابات الشهيد الصدر (رحمه الله) لوجدناه يخاطب الجميع بكلمة (أخي) وكان الاسلام هو هدفه وغايته الأولى والأخيرة”، وأكد أنه حتى شقيقته الشهيدة (بنت الهدى) لم تخرج عن الأدبيات التي آمن بها الشهيد الصدر ولا عن مشروعه وكانت فيما تكتب وتخطب تسير على نفس المنوال، ونقل عنها أنها كانت تذكر: 
إسلامنا عند الحبيب / وكل صعب فيك سهلُ
ومن أجل دعوتك العظيمة / علقم الأيام يحلو 
وأوضح الحسناوي أن “الشهيد الصدر الأول كان من هؤلاء الناس الذين انتصروا للإسلام فكرياً ونظرياً وعملياً، حينما رفض المساومة على حياته وآثر على نفسه المضي الى ربه شهيداً مضرجاً بدمه كما فعل أجداده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والإمام الحسين (عليهما السلام)، ولم يكن رحمه الله آخر الأولياء والعلماء الذين قضوا في سبيل الله والدين والوطن، فقد قتلت عصابات (داعش) الإجرامية والتي هي امتداد طبيعي لجرائم البعث الصدامي الكثير من العلماء والمفكرين، وقضت على معالم الحياة والحضارة في العراق، وبطبيعة الحال يدل على أن الخلود لا يناله المجرمون مهما فعلوا وكثرت جرائمهم، ويبقى للذين ساروا على درب الكرامة والتضحية وخطى الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) الداعي الى العدل والاحسان ومعاملة الآخرين بالحكمة والموعظة الحسنة”.
 
سيرته ومؤلفاته
ولد السيد محمد باقر الصدر بمدينة الكاظمية في (1 آذار 1935 الموافق 25 ذو القعدة 1353هـ - 9 نيسان 1980 م الموافق 23 جمادي الأول 1400هـ)، ووالده هو السيد حيدر الصدر، ووالدته هي كريمة الشيخ عبد الحسين آل ياسين أخت المرجع الديني المحقق الشيخ محمد رضا آل ياسين، وينتمي السيد الشهيد إلى اسرة الصدر العلمية الكبيرة التي برز منها عدة شخصيات دينية منهم شقيقته بنت الهدى وابن عمه السيد محمد صادق الصدر والسيد موسى الصدر وشقيقه إسماعيل 
الصدر. 
شرع بحياته الدراسية في منتدى النشر في الكاظمية، فبدت عليه امارات النبوغ والعبقرية مبكراً، وابتدأ دراسته في السنة الخامسة من عمرهِ، وأنهى الدراسة الابتدائية في سن الحادية عشرة من عمره، ثم اتجه إلى الدراسات الدينية في الحوزة العلمية؛ حيث أكمل دراسة السطوح بفترة قياسية.
أخذ بتعلم ودراسة الكتب الدراسية وحده ومن دون أستاذ فأكمل معظمها بهذه الطريقة، ودرس موسوعة “الأسفار” بطريقة خاصة كان قد اشترطها على أستاذه في الفلسفة الشيخ صدر الباوكوبي، بحيث يقرأ هو المطالب ويسأل أستاذه الإشكاليات التي يواجهها فقط، وقد أكمل “الأسفار” بهذه الطريقة في مدة ستة أشهر. في سن الحادية عشرة من عمره، بدأ بدراسة المنطق وفي نفس الفترة كتب رسالة في المنطق، حيث كان يطرح بعض الإشكالات على الكتب المنطقية، في أوائل الثانية عشرة من عمره، شرع بدراسة كتاب “معالم الأصول” عند أخيه السيد إسماعيل الصدر.
قبل بلوغ الرابعة عشرة من عمره، هاجر إلى النجف الأشرف سنة 1367 هـ فحضر دروس البحث الخارج لنخبة من أساتذتها كخاله الشيخ محمد رضا آل ياسين، والسيد أبو القاسم الخوئي، وبرز بكونه علماً من علماء الحوزة في وقت مبكر، وحصل على الاجتهاد في سن الثامنة عشرة، فأصبح أحد الأعلام الكبار في الحوزة العلمية وارتفع اسمه في الأوساط العلمية، كان معدل مطالعته العلمية في اليوم الواحد ست عشرة ساعة خلال سنوات تحصيله الأولى على طوال سبع عشرة أو ثماني عشرة سنة، بدأ في إلقاء دروسه ولم يتجاوز عمره خمسة وعشرون عاماً.
لم يكتف الشهيد الصدر في الكتابة بالقضايا الدينية البحتة فقط، كالأصول والفقه والتفسير، بل اقتحم مجالات أخرى، فكان البيان طوع بنانه، فكتب “اقتصادنا” و”فلسفتنا” و”البنك اللاربوي في الإسلام” و”الأسس المنطقية للاستقراء” الذي يعد واحدا من أهم كتبه ويقترح فيه السيد الصدر صياغة جديدة لنظرية المعرفة البشرية على أساس قاعدة بديلة لعملية الاستقراء. 
 
مواقفه من البعث
وقف الشهيد الصدر موقفاً مشرفاً في دعم مرجعية زعيم الطائفة السيد محسن الحكيم، حين حاولت سلطة البعث في عام (1969) توجيه ضربة قاتلة للمرجعية من خلال توجيه تهمة التجسّس لنجله السيّد مهدي الحكيم، فحشد الشهيد الصدر الجماهير في مرقد أمير المؤمنين لإظهار قوة التفاف الجماهير حول مرجعيتها الدينية، كما كانت له مواقف مماثلة بالوقوف بوجه الإجرام البعثي في أعقاب إعدام شهداء “قبضة الهدى” الشيخ عارف البصري ورفاقه، وتأييد الثورة الإسلامية في إيران، وتصديه للإفتاء بحرمة الانتماء لحزب البعث المجرم.
جرى اعتقال السيد الشهيد من قبل النظام عدة مرات، وفي سنة 1979 وبعد أن أمضى عشرة أشهر في الإقامة الجبرية، تمَّ اعتقاله في شهر نيسان من سنة 1980، وبعد أيام من الاعتقال والتعذيب الشديد تم إعدامه مع أخته العلوية الطاهرة بنت الهدى وكان عمره الشريف 47 سنة .