ملحمة الانعتاق من الفؤاد والجسد

منصة 2021/04/10
...

  فاطمة بومدين
لقد تحدثت في مقالات سابقة عن الأدب الكوري بطريقة عميقة ومبسطة في الآن ذاته، لكني تعمدت أن أترك بعض الفراغات بين السطور والتي من شأنها أن تثير القارئ لكي يباشر عملية البحث في هذا الأدب العظيم بنفسه أو يتوجه نحونا مباشرة ليطلب منا مقالا آخر يشبع من خلاله فضوله.
ولعل ما يجهله الكثير منا أن الأدب الكوري أعمق بكثير من الآداب الأخرى سواء في النثر أو الشعر، وأن المرأة أسهمت في بنائه وتعزيزه أضعافاً مضاعفة منذ القرن الخامس عشر، رغم أن الروائيين في تلك الفترة كانوا يستعملون اللغة الصينية في طرح أعمالهم الى غاية نهاية القرن السادس عشر، وكانت كلها أعمالا خياليَّة هرب فيها الكاتب والقارئ من الواقع الأليم نحو الحلم الجميل ليحصر ويبحر بفكره ونفسه وسط المجتمع المثالي.
مرَّ الأدب الكوري بمجموعة من المشكلات مثله مثل باقي الآداب نتيجة الحروب التي تعرض لها، ما جعل نتاجات تلك الفترة ضعيفة بعض الشيء؛ أو بمعنى أصح وجودها غزير لكن صدورها محظور؛ كونها تعكس الواقع المعاش وتكشف المستور. كانت كوريا قديماً تعرف بمملكة جوسون التي تأسست على يد الجنرال تايجو سنة 1392، واستمرت صامدة لأكثر من خمسة قرون لتصبح بعد ذلك جمهورية كوريا سنة 1879 وهذه الفترة التي أشرنا إليها هي فترة تاريخيَّة اِتخذ منها الكوريون انطلاقة جديدة في أدبهم ولم تعد الروايات السياسيَّة، الخياليَّة، الدينيَّة والواقعيَّة تشكل أولويَّة في نتاجاتهم الأدبيَّة، لقد فضلوا الانصراف لكتابة الملحمات والروايات الشعبيَّة والتارخيَّة نذكر منها على سبيل المثال أول رواية شعبية والتي تعرف بـ”تشون هيانج” والتي تقع أحداثها في منطقة “نام وون” تحدث فيها الكاتب عن حياة الكيسانج (نساء يعملن راقصات تحت امرة الملوك وسكان القصر) والظلم الذي تتعرض له المرأة.
تحكي رواية تشون هيانج الشعبية عن فتاة جميلة وعفيفة أمها من الكيسانج فتاة محبوبة جمعتها علاقة بشاب من الطبقة الحاكمة اسمه ‘دوريونجلي’ وكيف تزوجته سراً وعندما انفضح أمر زواجهما أمام الأسرة الحاكمة رفضوا الأمر وساروا به نحو نحو العاصمة نام وون ليصبح الخليفة، أما هيانج فقد بقيت هناك في القرية حتى وقعت في عذاب أحد الوزراء الطماعين لكنها حافظت على عفتها وكان الثمن روحها وجسدها، ثم عمل الكاتب بجهد ليجعل الأفكار متسلسلة ويصل بنا الى نقطة الهجوم الذي شنه ‘دوريونج’ وجنوده على الوزير ومن معه ويخلص السجناء من بطشه وتشوهيانج واحدة منهن.
ثم رواية (pachinko) التي تنتمي الى الخيال التاريخي وتم عدها ملحمة تنقل لنا فيها الروائية ‘مين جين لي› min-jin -Lee أحداث جيل كامل عبر ثلاث مراحل كل مرحلة محددة بفترات زمنية متسلسلة، إذ بدأت الكاتبة روايتها الأولى التي جاءت تحت عنوان “غويانغ - مسقط الرأس’ 1910 - 1939 بالحديث عن مهاجر كوري يملك فندقاً بسيطاً وله ابن مصاب بالأرنبية ‘هوني’ عملوا جاهدين على تزويجه من فتاة فاضلة ‘هونفين’ لكنه مات بعد مدة قصيرة تاركاً خلفه ابنة اسمها ‘سونجا’ تعيش وقائع كثيفة وتمنح بسبب جهلها قلبها وجسدها لرجل ‘هانسو’ ثم تثور ضده وترفض أنْ تكون عشيقة. تتزوج من قس ‘ايزاك’ مريض بداء السل للتستر على حملها ثم تنجب ابنها الأول ‘نوا’ اللقيط ثم ابناً شرعياً يعرف بـ ‘موزاسو’. والجدير بالذكر هنا كيف حاولت الكاتبة أنْ تصور لنا الشبه الكبير بين اللقيط والأب غير البيولوجي وهذا ما يجعل الاختلاف بين الأب والابن الحقيقي يضعنا تحت قبضة إشكالات أخرى.
ثم تطرقت في الفترة الممتدة ما بين (1939 – 1962) برواية جاءت تحت عنوان ‘الوطن’ الى التدهور الذي شهدته كوريا جراء الاحتلال الياباني وكيف عاشت سونجا وأبناؤها في اضطهاد وحاجة تامة، لا سيما بعد أنْ ساقت الشرطة زوجها الى السجن بتهمة التعصب الديني والتحريض وكيف تم إخراجه. تعود مين جين لي بعد إتمام وصف وسرد أحداث الحلقة الغامضة المتعلقة بإخراج إيزاك من السجن للحديث عن الأبناء وهم في مرحلة الشباب وكيف أسس كل واحد منهم حياة خاصة لنفسه، بينما بقيت سونجا حبيسة الماضي وذكرياته خاصة بعد ظهور العشيق الذي غاب طويلاً في الرواية وكيف مدّ يد المساعدة من بعيد للابنة حتى انكشف السر وهرب ‘نوا’ من البيت ومن أمه بل هرب حتى من نفسه.
في الجزء الأخير ‘پاتشينكو’ تحدثت لي عن زواج الأبناء وعن حياتهم الخاصة والعلميّة والعمليّة بالتفصيل الممل ثم جعلت عقوبة الأم هي الفراق للمرة الثالثة، فراق يصحبه ألم لا يزول حيث توفي ابن الحب، فلذة كبدها، ابنها البكر ‘نوا’ تاركاً خلفه جراحاً لن تتحول الى ندبة، بل جراح تنزف للأبد ثم تنهي الرواية بموت حتمي آخر وهو موت السيد هانسو، الذي لم تكن سونجا تهتم له لكنها لم ترد رحيله للأبد لأنّ الموت صعب.
يجب أن أقول إنّ هذا العمل الأدبي كان عملاً سردياً شكل تحفة خياليّة تاريخيّة بامتياز عملت فيه الكاتبة على إبراز حقيقة العالم الفوضويّة وإظهار الصورة النهائيّة للقرارات اللاعقلانيّة التي من شأنها أنْ تضرَّ بالحاضر وتفسدَ المستقبل.