علي حسن الفواز
هل يمكن أنْ يتشابه الرحيل الى اللون، مع الرحيل الى الموت؟ وهل يمكن لهذين الرحيلين أنْ يكونا خياراً مفتوحاً للبحث عن المعنى، أو موقفاً متعالياً إزاء الوجود؟ أحسب أنَّ هذه الأسئلة المفارقة والقاسية ستظل بلا أجوبة، لأنَّ الراحلين تركا الأثر، والحكايات وذهبا الى الفراغ، حيث تفقد الأشياء بريقها، وحيث تضيق الحياة والعبارة من دون أنْ تتسع الرؤيا، لأنَّ الموت العجول لم يترك فرصة للرائين، لكي يلملموا الحقائب والتفاصيل والألوان.
بلاسم محمد، وماهود أحمد استشرفا خيار الرحيل العجول الى اللون، لكي لا يظل العالم أسود، وعاطلاً عن المعنى، استفزا الذاكرة، عبر لعبة السيمياء كما أراد بلاسم، وعبر روح المكان الضاخب بألوانه كما أراد ماهود، وليدركا معاً سحر هذا الاستفزاز، بوصفه رهاناً على جماليات السرد اللوني، وعلى أنْ يكون هذا السرد بديلا أكثر سطوعاً عن التاريخ والواقع الأكثر توحشاً وقسوة ومرارة..
بلاسم محمد الحالم الاستثنائي، والمثقف الرائي الذي كشف سرائر اللون والفكرة وجد نفسه أمام منافٍ داخليَّة، باردة، وضيقة، لا تتسع للحياة ولا للرؤيا، ولا للحلم، ولا للحياة نفسها، عاش فقدانات كثيرة، الأمل، الوقت، لذة السطوح والوجوه التي يعشقها، والحكايات التي تنسل من اللوحات والجدران، والمعرفة التي تشتبك بالأسئلة، وبروح العلامات التي يطمئن اليها أكثر من الواقع نفسه، لكنَّ الفقد الأقسى كان رحيل القرين، الحب، المرأة التي أغوته كثيراً بالمعنى، حيث دفء الجسد، ودفء الحكاية، ليجد نفسه أمام رعب الوحدة، وقسوة الفراغ، فأدرك أنَّ الرحيل الى الموت يمكن أنْ يشبه الرحيل الى اللون، الى اللوحة والمرأة والسطح
والسماء..
ماهود أحمد المسكون بذاكرة الماء والروح السومريَّة، والجنوب المغسول بالأساطير والمثيولوجيات الساحرة، وجد نفسه- هو الآخر- أمام انكسار فاجع، انكسار المكان ذاته، ليواجه رعب المنفى الخارجي، منفى الجسد والسيرة والذاكرة، حدّ أنه عاش بنصف ذاكرة ونصف تاريخ، وبألوانٍ لم تستطع أنْ تمارس أي شغف، أو جوار للأشياء التي يعشق، فتراه في المدن المجاورة والبعيدة في آنٍ معاً، المدن التي ضللته، لكنها لم تسلبه الذاكرة الجنوبيَّة، ليترك جسده لخيار الموت مصدوماً ومفجوعاً، وتائهاً تجره الوحدة والوحشة الى «اللاحيث» إذ يختلط الموت بألوان العتمة، وإذ يتحوّل اللون الى لعبة في الخفوت والصمت، أو ربما في البحث عن قلقٍ أقسى منه الاطمئنان
إليه.
مات بلاسم محمد الساطع مثل نجمة لم تشأ الغياب، ومات ماهود أحمد العرّاف بتاريخ اللون، وكأنَّ اشتراكهما بزمن الموت هو ما يشبه الاحتجاج على رعب المنافي الداخلية والخارجية، حيث تنكسر الأشياء وتفقد حساسيتها إزاء البقاء، وإزاء الحياة ذاتها التي ضاقت مساحاتها وwمسافاتها، فخبت بسالة الرؤيا، وبدت بسالة الموت، وكأنهما خياران يضعان الرجلين أمام اللا أفق، وليبدو الرحيل الى اللون هو الصنو الصاخب للرحيل
الى الموت..