الرؤية المفقودة

العراق 2021/04/26
...

إبراهيم العبادي
 
لاينفك العراقيون عن الانشغال بمعارك يومية حد الاقتتال بالسلاح، فمالدينا من مشكلات معقدة تعيق بناء الدولة ومؤسساتها العامة يند عن الحصر، ولو اتيح تفكيك هذه المشكلات ذات الطبيعة البنيوية لأمكن تصنيفها الى مستويات رئيسة وفرعية، أولية وثانوية .
ما يتفق عليه العراقيون وبإجماع كبير هو الاعتراف بالمشكلة، وهي عدم قدرة نظام دستور عام 2005 على بناء الدولة، عدا ذلك يختلف الناس على السؤال الذي يليه، من اين نبدأ في اصلاح الحال؟ هل أن الخلل دستوري حتى نعيد تنقيح الدستور ونعيد صياغته قانونيا وسياسيا؟ ام ان الخلل في الادارة المؤسسية؟ لنستعير تجارب العالم اجمع في بناء المؤسسات؟
بعيد سقوط نظام البعث في العراق وما نتج عنه من لهيب كبير، انتبه المفكر الاميركي (فرانسيس فوكوياما) الى مشكلة الحكم والادارة في القرن الحادي والعشرين، حينما تنهار المؤسسات ويضطرب وعي المواطن وتتعارض المصالح بين الفئات الاجتماعية وتنحدر قدرة السلطات على فرض قوانينها واعرافها، قد يكون العراق نموذجا من نماذجها. هذا ماحفز فوكوياما على كتابة كتابه (بناء الدولة) فإعادة بناء الدولة ليست مهمة هندسية يمكن الانتهاء منها بسهولة بتركيب هياكل سياسية وسلطات عليا فحسب، انها مهمة محفوفة بمخاطر جمة اذا ماجرت بعشوائية واستعجال وتنازع اهداف ومصالح، لذلك ماكان متصور لدى اكثر المتفائلين ان تصل تجربة بناء الدولة الديمقراطية في العراق الى نهاياتها السعيدة، السبب الذي يحول دون ذلك هو غياب الرؤية لدى جيل (التأسيس) والتي كان من نتائجها ان عجزت الهياكل الدستورية والقانونية والادارية عن استيعاب التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمجتمع لم يتفق على تعريف نفسه وهويته وأهدافه.
ما يبعث على الريبة والشكوك العميقة، هو استمرار القوى السياسية بمنهج يقارب المشكلة سطحيا وإجرائيا، فيكون الحل مثلا بوصول رئيس وزراء من صفوفها ليكون هو (اديناور) العراق، أو يكون حل الازمة المعقدة بمشروع الاغلبية السياسية او الاغلبية الوطنية أو تحالف الفائزين أو معارضة الخاسرين، هذه الحلول تبدو علاجا لمشكلة التنازع على السلطة والصلاحيات والمكاسب المتحصلة منها.
المشكلة في العراق ليست ازمة حكم يتم التغلب عليها خلال فترة انتقالية تستمر ربع قرن مثلا، الازمة في تشييد اركان الدولة، من سلطات فعالة وهوية وطنية واضحة ووعي بالمصالح  المشتركة وقدرة على الانجاز ومواطن يعي مسؤولياته وادواره، وقوى سياسية تمتلك رؤية اجمالية عن الاهداف ومراحل بلوغها.
بغياب هذه الرؤية سيشتعل الفضاء العراقي العام بمعارك سياسية وادبية واعلامية، هي تعبيرات عن معركة (استغفال) المواطن وتحفيزه شعوريا وغرائزيا ليذهب الى الانتخابات مقترعا لصالح هذه الجهة الحزبية او تلك، فالانتخابات ليست مفاضلة بين مشاريع سياسية ومنهج اداري واقتصادي وخدمي، يمثل برنامج انقاذ، بل بين من ينجح في تسويق شعاراته، اغماضا لاصل المشكلة وجذر الازمة، وهو لايدرك ان بناء الدول وتمكين المؤسسات اخطر بكثير من الانشغال بالمعارك السياسية الخارجية، بينما ناسه يرتعون بالفقر، ويرون بأعينهم مظاهر انتهاب الدولة،  وثراء قوم واستقواء اخرين، ويشاهدون يوميا جعجعة السلاح في الشوارع، كأن العراق يكرر النموذج اللبناني غداة حروبه الاهلية.