كاظم السّيد علي
السيد كاظم القابچي واحدٌ من الأسماء المهمة في عالم الأنغام الموسيقيَّة والمراثي الدينية ليس هناك منا لا يعرفه ومن لم يطرب إليه بصوته النادر والمتميز والجميل بعنفوانه وقوة تعبيره في أداء الجواب والقرار بطريقته الشجية المعروفة لدى الجميع والتي تدخل القلوب من دون استئذان. رحل القابچي منذ زمن بعيد، لكنه بقي في ذاكرة ووجدان الناس، ملأت شهرته آفاق الساحة الفنية داخل البلاد وخارجه وتميزت سيرته بعطاءات زاخرة، وهنا اليوم ارتأيت أنْ أقدم إلى محبيه ومريديه وقرائنا الأعزاء شيئاً عنه وفاءً له لما قدمه هذا الغريد النجفي المولود عام 1906 صاحب المراثي الدينية الشهير الذي كانت حنجرته من الحناجر النادرة وتمتلك ذبذبات طبيعيَّة غير مصطنعة وفي قراءته تشعر بإحساس ومعاناة تظهر على صوته الجميل الشجي.
بدأ رحلته مع الغناء بحلاوة صوته الجميل والقوي من خلال سماعه لخطباء المنبر الحسيني في بيئته النجفيَّة، ما شجعه على هذه القابليَّة الكبيرة، تمكن في بداياته الأولى من حياته الفنيَّة أنْ يستوعب المقامات ويحفظها على قلبه عند ملازمته لزميله حميد المحتصر الفنان الذي كان يضاهي بصوته قراء المقام في البلاد آنذاك، إلا أنهما كان يشكلان ثنائياً في الحفلات والمناسبات العامَّة والخاصة فأخذ منه الأنغام المعروفة مقامياً (الأطوار)، وتميز في أداء الابوذية والبستة ولكل واحد منهما لونه الخاص بالأداء، فكان القابچي يعطي لكل مقام إضافات في الخفقات الصوتية العذبة وهذه تنم عن إمكانياته الكبيرة في قدرته الأدائية بين الوعي والثقافة التي كان يمتلكها في تلك المرحلة، فأجاد كل الأطوار، ما سهل عليه أداء القصيدة الرثائيَّة من خلال المنبر الديني لتلك الأطوار، وعلى هذا أعطى القصيدة ألحاناً متعددة فكان يعطي في كل يوم من الأيام العشرة الأولى من الشهر الحرام لحناً خاصاً يتلاءم مع حدث ذلك اليوم، بصوته المتوهج بالحماس الثوري من خلال إحياء استشهاد الإمام الحسين بن علي «ع» في سبيل إعلاء كلمة الحق والعدل والخير.
كان القابچي من الأصوات المدويَّة بالدفاع من أجل الحريَّة، حتى إنهاء حالة القمع، وانتهاك أبسط حقوق الإنسان العراقي على امتداد سنوات الحكومات الرجعيَّة والدكتاتوريَّة من خلال القصائد المنبريَّة التي كان يكتبها الشاعر الوطني عبد الحسين أبو شبع والتي أغلبها يتخذ طابعاً سياسياً مناوئاً لسياساتها آنذاك ضد كل من هو وطني من أبناء شعبنا.فهو مجدد ومبتكر ومبدع في الأطوار والأنغام الغنائيَّة الفراتيَّة والجنوبيَّة، فمن ابتكاراته والكل يعلم بها: الطور (الفجري)، فهو لون خاص به أخذه من نغم البند من مقام (الدشت) وكان لوناً حزيناً ومؤثراً وأكثر الأحيان كان يؤدي طور (الصبي) من خلال غنائه المستمر بهذا الطور نغمة حسينية من لمساته الشجية مما أكسبه هذا الطور خاصية حزينة تعود لأجواء بيئته، وكذلك أدى الطور (الغافلي) وأضاف عليه بعض ابتكاراته وأخذ يعرف في مدن الفرات بطور (القابچي) وكان له تأثير خاص على المنبر الديني وبأصوات كل من: الراحل وطن الرادود ومهدي العلوية وهادي مريطي وبعد ذلك أصبح طوراً غنائياً يغنى من قبل المطربين الريفيين أمثال: (جعفوري محمد، سعدي الحلي، مظفر عبادي، عبد الله النجفي، إبراهيم الأسود، حسين جودة، عزيز النجفي، ومحسن الكوفي وياس خضر في بداياته الغنائيَّة الريفيَّة)، وغيرهم حتى هذا اليوم.فكان مبدعاً كبيراً ليس له نظير وهو الصوت المهيمن لسنوات طويلة في تلك الحقبة من خلال أدائه في جلسات الغناء الخاصة والمراثي الدينيَّة والتي كانت بمثابة الهواء الذي يستنشقه في حياته، لقد نال من خلال هذا الإبداع إعجاب الناس بكل طبقاتها وخاصة زملاءه الفنانين في عصره أمثال مسعود العمارتلي وعبد الأمير الطويرجاوي عندما كان الأول يزور النجف بالزيارات الدينية المعروفة تعقد على شرفه جلسات خاصة ومختصرة يغني فيها العمارتلي وبعد انتهائه من الغناء يطلب من السيد القابچي الغناء لأنه كان معجباً بصوته كل الإعجاب.