سحريات الطقوس والأساطير

ثقافة 2021/05/02
...

  ناجح المعموري 
البدئية لحظة تاريخية مبكرة جداً، لا تستطيع الجماعات تحديد ضبط وانسجام تدويني لها، لأن الكتابة متأخرة كثيراً في تحديد التكوّن، والمكتشف الحفري في أماكن الجماعات/ الكهوف والمخابئ هي المحتضنة والخازنة لمتروكات الفرد والجماعة؛ لذا هي الدلائل البدئية المعرِّفة بمن كان وكيف تبلورت حياته درجة، درجة، وأكثر المكشوفات المعبرة عن البدئية هي بقايا الطعام، الأزياء، المستعملات اليومية، الأسلحة ذات تعدد الوظائف وأعني بها قطع الحجر ذات الاستعمال المتعدد. وبالإمكان التعامل مع كل المكشوفات الدالة على لحظة مبكرة، كان فيها الكائن بسيطاً للغاية باستعمالاته، لكن ذلك لا يعني نوعاً من التخلف لأن المزاولات كافية على الدلالة التي تفضي نحو ما يعرفه الكائن مهما كان أولياً وبسيطاً للغاية. 
فالعقل حاضر وبقوة، لأنه الذي قاد الكائن ضمن مرحلته آنذاك للبحث عما يريده وسيلة ضرورية لجعل الحياة وسط الكهف أو خارجه في الغابة أو فوق الجبل مقبولة، غير ناقصة. وهي ايضاً ـــ البدئية ـــ مصطلح البساطة والسهولة والتعقد في آن.
البدئية كما قال أنشلي مونتاغيو هي النقطة الغائمة، التجريدية وغير المحددة وسط الزمان «هي أولية، أحياناً تستعمل على ما هو أصلي أو قديم أو من المنبع الصافي، بمعنى لها علاقات ذات صلة ببداية الأشياء في فجر الحياة والمجتمع البشري في خط مستقيم»، وهو إطار ما يزال واسع الانتشار الى مجتمعات سحيقة في القدم لا يمكن التعرف عليها إلا من خلال الحفريات الأثرية. وكذلك الى مجتمعات معاصرة يقال تشبه القديمة في عدد من الأمور المهمة باستخدام آلات الحجرية والاقتصاد القائم على الصيد والزراعة.
إن الوجود بمكان محدد اختاره الفرد أو الجماعة له دوافع صيانية تتوفر فيها امكانات دفاعية ومصدات، تتعذر بحضورات مشتركة بين تنوع الافراد والتشارك الطوعي في الزراعة، واللقط اليومي للقوت ووسط هذه الانشغالات تبرز العديد من المخاوف بسبب كثرة الحيوانات الملاحقة للافراد وهي تطوف الغابة، ويضطر الانسان للعودة لمكانه الذي يمثل رحماً صيانياً. ان تكررات مثل هذه اللحظة ضغطت على الفرد ان يبتكر ثقافة صيانية اختارها بوعي ومعرفة. وتمثل الصياني بوجود مقدس اقترحه الفرد واستجاب له الافراد، ومثل هذا الإله/ الدين/ المقدس لا بد له من طقوس توفر نوعاً من الاطمئنان والاستقرار واختار له علامة من المكان الذي هو فيه ووضعه معبوداً، استولد من ثم قبولاً بالاستجابة واخضاعاً قوياً. اكتشف فيه الفرد تدريجياً نوعاً من التغذية الروحية والنفسية. واحتاج المقدس تعدداً من الطقوس والمزاولات المشتركة. حتى العلاقة بين الذكر والأنثى فيها تمثيل صياني وردعي، وينطوي مثل هذا الاتصال الجنسي على قوة الذكر وتأدية وظيفته ومن ثم النجاح بالخصب الذي يزيد العدد البشري. 
قال العالم الانثربولوجي «إ.ايفنز ــ برتشارد» وميزما لينوفسكي كما فعل غيره، بين القدسي والنافل. قال ان القدسي يمتاز بأن الافعال المتعلقة به تفعل دائماً بشيء من التبجيل والخشية المشوبة بالاحترام. وان السحر يختلف عن الدين لان الطقوس بالذات مراسيم الولادة والبلوغ والموت ــ في حين ان السحر يدعي الوصول الى غاياته بفضل الطقوس، فليس هي بحد ذاتها غايات. هكذا فالطقوس مثلاً تبارك في الصيد او في الموسم الزراعي، غير ان السحر والدين، من الناحية النفسانية، متشابهان، اذ انهما يلعبان معاً دوراً مهدئاً، دوراً في تنقية الاهواء في الفترات الحرجة من الحياة، لاسيما أمام الموت. ومثل هذه المواجهة والتحدي الصادم أنموذجه الديني/ المقدس المتسامي، منح الفرد والافراد استقراراً ونوعاً من الهدوء. في هذه اللحظة حاز على حياة آمنة.   
تمثلت الانعطافة الثقافية/ الدينية باتجاه المقدس والعلاقة معه وتوظيف طقوسه وسحرياته المانحة له القوة والصيانية. لذا دائماً ما كان الكائن يلاحق مقدسه المتسامي، المتعالي ويرى تمظهراته في كل ما يتضح بالسماء مثل النجوم، القمر، الشمس. وكرست الكشوف الانثربولوجية، مفهوماً يتبدّى بعلاقة فاعلة ولها قوة معيوشة، تأخذ سيرورتها من قبول الافراد بتداول الطقوس ومزاولتها في لحظات الأزمة والخوف. والذهاب نحو شعائر سحرية، لعل أكثرها هي الموفورات في المكان/ الغابة، الصيد، ولقط الفاكهة وتقديمها للمقدس، وسط الكهف مع شعائر جماعية، مثل الرقص والغناء، الذي دائماً ما يتمظهر عنيفاً وكان تلك الشعائر السحرية تمارين للقوة والمقاومة وتنشيط الجسد.
قال العالم روجيه كايوا في كتابه «الانسان والمقدس»: ان اي تصور ديني للعالم يفترض التمييز بين المقدس والدنيوي، على قاعدة التعارض القائم بين عالم يتفرغ فيه المؤمن لأعماله بحرية ويمارس نشاطاً لا تأثير له على خلاصه الابدي ومجال يتعاود فيه الخوف والامل فيصيبانه بالشلل، حيناً بعد حين، ويجعلانه كسائر على حافة الهاوية ومهدداً بالهلاك الذي اقل انحرافا. ان الانسان المتدين هو من يعتقد قبل كل شيء بوجود وسطين متكاملين: واحد يستطيع الانسان أن يتحرك فيه بعيداً عن كل قلق ورعدة. وواحد يستطيع الانسان ان يضبط فيه كل ميل من ميوله ويحتويه ويوجهه شعور حميم بالتبعية.
السحر عتبة الدين الاولى، وممارسات مرتبطة بالحياة اليومية، غير مرتبطة بوقت محدد، بل هي مقترنة بأزمنة تعطي للكائن حصانة ــ هكذا اعتقد الكائن ــ مثل الصباح الظهر والمساء، ما يحصل في هذه الازمنة طمغة تتأسس عليها مزاولة طقسية، تصاحبها نار متغذية باغصان وورق الشجر يتصاعد دخان ونار هادئة.
يذهب المقدس منذ لحظة اتفاق الجماعة عليه، بعد تجليه نحو المعنى، وتمظهراته سريعاً، لان الاستجابة للتجلي ضرورة ملحة للمقدس حتى يتمكن من زيادة حضوره وحظوته، وفي مثل هذه اللحظة التي يكون المعنى والدلالات ذات سطوة وتتبدّى سلطة، لا يمكن لشخص التمرد عليها. لان موجوداته في محيط تواجده كثيرة للغاية، رموزه وعلاماته، حضورات شعائرية وطقوس. سحرياته المتداولة في مكانه/ معبده وما يشير اليه من أيقونات معلقة على الجدران. واحتراق المباخر، ودخانها المتصاعد، والنافذ من فتحات الجدران نحو الخارج، ودبيب رواجه واحساس الافراد والنسوة الاكثر تشمماً له، ويفهمن ذلك بأن تلك الرائحة دعوة للنسوة والفتيات الى زيارة المعبد ومزاولة الطقوس، واداء الصلوات وترديد النصوص الموروثة ثقافياً، وحضورها مع طاقتها بتمثيل الاباء والامهات. وتتعايش الجماعة وحصرياً النسوة والامهات، مع زمن التوافر ومغادرة الاكواخ التي تشبه المخابئ حاملة معها شعرية التعايش منذ رموزها المحتشدة المانحة للمقدس صلادة وقوة جبارة. تضغط على المتعايش والراضي بخوف من تمظهرات التجلي. الذي لم يتعطل، بل ظل بسيرورة ممنوحة له من جماعات النسوة ورجال في عتبات الشيخوخة، ازداد هوسهم بالإعلان عن رمزيات الشعائر الطقسية. 
يتصاعد منها دخان، تفوح منه روائح مختلطة، نتاج احتراق تنوعات الاشجار واوراقها. لذا ظلت الروائح الفواحة خاصية الفعل السحري والرقص المصاحب، فيتحول النشاط السحري سمة مرتبطة بالأماكن الرحمية والفضاءات الخارجية. والفرز الذي حققته تلك الشعائر ابرزت دورا لاكثر الاشخاص حضوراً والتماعاً وصار كاهناً يؤدي الشعائر ويقودها ويقترح تطويعها بما هو معزز لاستدعاءات جديدة مثل التصورات والاساطير، وممارسة ما هو فاعل بين الجماعات، مكرسة العلاقات المقترنة بالأرض. مع تبلور افكار واخلاق روحية، دينية تتجه نحو السماء والارتباط بالأرض. حتى اتضح تدريجياً في الحياة اليومية، والتبادل التفاعلي وسط المغارات والكهوف او الفضاءات الغابية ان المقدس مصدر كل الفعاليات التي تنتشر بسرعة وتغور في الدنيوي وتصير مكوناً منه ولا يمكن الغاء الدال عليه وشطبه، لان الدنيوي يحتاج المقدس مع ما يمنح من قدسية. اذ لا بد من التحكم بالعلاقات بين المقدس وطقوسه وبين الافراد، لذا صار من الجوهري تنظيم العلاقات وتكريس التبادل بينهما وبانسجام عال من الضبط والدقة. ان صعود المقدس وسيادة السحري يفرز تلقائياً التابو/ المحرم الذي يصير حاضراً مهماً، فيه تمثيل للاخر الذي اجترح المرفوض والمدنس وتسامي القدسية.