ذكريات الطائر المهاجر وجدر الحسين (ع)

ثقافة 2021/05/02
...

   عبد الهادي المظفر 
 
لا ينبغي لك وأنت تتذكر أصدقاءك أن تنحي العاطفة جانبا –رغم أنها- كما يقال تدخل من الباب فتُخرج التقييم العلمي من الشبّاك، لكنها في ذات الوقت سواء أدخلت من الباب أم لم تدخل فهي حاكمة على مزاجات الكاتب مهما حاول أن يكون منطقيا فلا منطق في ذلك.
 ما هو منطقي أن تكون ابن بيئتك تعيش ذكرياتها وتؤمن بتفاصيلها أو تفرض عليك بدوافع اللا جدوى من التفكير بغيرها، تتعايش معها وتربي جلدا سميكا لك إن خشيت مخالبها، غير المنطقي في ذلك أن تكون إنسانا تعيش ترف التسامح في شرعة غاب، أن تحاول أن ترمم خرابها مستنزفا عمرا كاملا أملا في أن تلعب الشاة مع الذئب جزافا.
مروان عادل حمزة كان من أولئك الذين عاشوا كل تفاصيل بلده غير أنه لم يمتلك يوما مخلبا، واجه قسوتها بعذوبة الشاعر
« من علّم باعة السمسمية أن يكونوا باعة 
رقاب، هذه ليست مدينتي يا رب،
في مناطقنا ألا نعبد إلا إياه
وأن نربي في كل بيت بلبلاً
البلبلُ في المناطق الشعبية يأكل معنا كواحد منا 
نكاد نموت من الحر ولا نشغّل مروحة 
ما الذي حدث ليصبح هؤلاء قتلة؟»
وفي حين انشغل العالم بتشجيع فريق طائفي ما، كان مروان يقول: 
  “لم أحفظ معهم جزء عمَّ ليأخذ كل واحد منهم آية يكفّر بها، فعمّ يتساءل هؤلاء؟ «
ربما هو الكائن الذي ينتمي الى رسالة أمدها حياة هذا الكائن، يعيش اغترابا داخليا محاولا كسر التوحّد فيه عبر منصات التواصل والمحبة، الرسل الذين قد لا يكونوا أنبياء بالضرورة!، لكنهم لم يكونوا يوما ببعيدين عن آلام قصباتهم، فتجدهم في كل مفرداتهم فتقول هذا كلام يقال ولكنك لا تستطيع الإتيان به.
وإن كان ثمة طاقة في الصوت نسترجعها فإن للحروف أرواحا والشاعر خير من يضع روحه في هذه الحروف، هذه الروح هي التي لا تتكرر بتكرار ذات الكلمات:
« إلهي يا خالق البناة والمهندسين 
نعيش في غرفة واحدة فأين أخبّئ الحرب من يد أطفالي «
 لقد أثرت الحوادث بمروان درجة أنه أرشفها بثنائيات رائعة (الموت والحياة، الحب والكراهية، البخل والكرم)، وكان له أن يصنع من آلامه سعادة داخلية يتصالح بها مع ذاته فهو الثمل الذي لم يحتسِ الخمرة يوما وعاشق النساء الذي لم يخن حبيبته مطلقا، ومربي الطيور الملتزم بثوابته العُرفية، هو المتأنق بالزي اللندني والمتصوّف المتهجد بمحاريب الأئمة، هو كل هذه الثنائيات التي قد تجدها عند أي شاعر يرى أبناء بلده يغرقون في عبارة العيد فيقول:
«من يومها وأنا أشعرُ أن في الماء الذي أشربه طعم أطفال،
من يومها وأنا أصرخ بوجه زوجتي لِمَ هذا الشاي حلوٌ جدا 
أيها الفاسدون: ما تزال العبّارة مقلوبةً تخجل أن ترفع رأسها
لا بدّ أن الموجة التي خلّفتهم وصلت البحر الان،
أيتها الأصدافُ سيصبحون عمّا قليل لألئ فاحتفظي بهم بعيدا عن محابس الفاسدين”.
هو الشاعر نفسه الذي كتب ذكريات بغداد بنغم النهاوند السعيد وحرّم على الجناة دخول شارعها الذي يدّعي النبوّة. 
“بغداد مدينةٌ للذكريات” وإن كان لا بد من تلك الذكريات التي تشبع النفس الإنسانية بمحو الآني المظلم كان الشاعر يرى مدينته بأبوابها الأربعمئة تعطي دروسا للطلبة والمستعمرين على حدٍ سواء، ذاتها التي يفخر بأهلها في قصيدة جدر الحسين:
« ناداهم الجدر في عاشور هل حطبٌ
فادّافعوا تحت جدر الشوق واشتعلوا».