طلاسم النقاش.. الماضي يفتت العقد

ثقافة 2021/05/04
...

  محمد اسماعيل
رواية "طلاسم بابلية" تأليف سناء النقاش، الصادرة عن مؤسسة "ثائر العاصامي" 2021، تبدأ بثلاثية الفعل والمفعول به والفاعل: "تملأ الجماجم أسئلة" بدل "أسئلة تدور في الرؤوس" المنطقية أكثر، لكنها تطفئ لهفة التلقي، بينما "الجماجم" تبعث غلواءً أجادت الروائية تأجيجها؛ ليستعد القارئ لعوالم تمور بالقلق الجمالي الجاذب.. بل لا أبالغ إذا قلت "المهيمن"!
فالرواية تسير وفق تداعٍ درامي محلق في فضاءات تلاحق الافعال الوئيدة، داخل بطلة الرواية "سنا" ثم تقتطع بمقطع ذي لغة تقريرية، لا تتعدى ستة أسطر، تعاود بعدها إنثيالات الاحساس الدرامي.. لكن ستة أسطر تبنى جماليات الرواية كلها عليها، مثل حجر سنمار!
"في بلد يعشق أهله طينه، يلعبون به منذ الصغر وينحتون منه رموزهم، وما تنظره عيونهم وقلوبهم بمحبة معتقة من زهو الآلاف من السنين.. بلد ينساب غرين انهاره من الاعالي الى جنوب القلب، في جنة عدن.. ألواح الطين تعيش المحنة بعد أن أدخله شذاذ الآفاق واللصوص في أزمة قد تؤول الى اقتتال وحشي وطائفي مرير، في حرب شرسة.. هوجاء، لا تبقي ولا تذر".     
واسم سنا، تورية لجأت إليها المؤلفة، بين الضوء واسمها الشخصي.
بعد الاسطر التقريرية الستة، التي لم تجئ بها النقاش عبثا؛ إنما لتأسيس عوالم من السرد القصصي المشوق روائيا: "أحست برعشة تهز جسدها الناحل المتراخي، عندما وصلت في قراءتها للعبارة على جهاز الهاتف الى كلمة "الطائفية" ارتطمت الكلمة بتلافيف دماغها المتأجج بالفكر؛ فانتصبت قامتها بقوة رافضة لهذه المفردة المقيتة، تهتز مفاصلها من فكرة الحرب التي تحرق بابل".
وبهذا أسقطت الحاضر العام على الماضين واستعارت جمال الملكة البابلية أيسينين.. مرغوبة الأنوثة من حمورابي والامراء وقادة الجند.. جمال المرأة الذي تحارب الجيوش من أجله وتتعارك العشائر.
تداخل حاضرها المأزوم أنثويا بترملها مهملة.. لا رجل في حياتها يتذوق فتنتها.. فتتوهج المؤلفة بالمناجاة التي تطليها على لسان البطلة: "آه يا بابل كم حاول الغزاة تدميرك وإحراقك ولكنهم فشلوا.. بقي طينك وحجرك يزهو من الازل".
أيسينين أم سنا أم سناء النقاش، الثلاث ملكات.. الاولى بزواجها من حمورابي والثانية بطلة للرواية والثالثة مؤلفة لها، ولا يريد القارئ ان يعرف تلك المناجاة لمن من الملكات الثلاث؛ لأنها مشاعرهن ثلاثتهن فعلا.
لينصدم المتلقي: "آه.. إمكانية تواصل التفجيرات والاغتيالات ما زالت مستمرة، بعد ان أحالت البلاد الى رماد ودخان"، مستفيدة من قدرتها على جودة الانتقال: "كانت هي الاخرى تهذي، تكرر أفكارها ومخاوفها.. تستفرغ كل ألفاظ الرعب" متفائلة: "وبحركات بطيئة تحاول مرة اخرى لملمة كيانها وأساها ولوعتها" مانحة النص الروائي ديمومة فعل متواصل يلوح فيه أمل الإمساك بزمام المبادرة من قبل سنا، التي يتفاعل الجمهور مع أزمتها من الاسطر الاولى لمأساة العراق الحاضرة وهي تعود إليه بابلية عبر موشور المعلمة الارملة المهملة الأنوثة.
"تصليح الدفاتر" وتقصد "تصحيحا" في السطر الثالث من الصفحة السابعة، و"جسمها" قاصدة "جسدها" في السطر التاسع من الصفحة الثامنة.
طلاسم بابلية نوع من رواية مقارنة، بين عراق الاحتقان الطائفي خلال السنوات 2003 – 2008 ممثلا بـ "سنا" وبابل مجسدة بالملكة أيسينين: "تئن وحدها كل مساء في غرفتها الباردة التي ماتت فيها الحياة منذ زمن بعيد".
فالامر لم يعد مرهونا ببطلة الرواية إنما بما توثقه "طلاسم بابلية" من إسقاطات بابل التاريخ على عراق الحاضر، في خطاب مشترك، ممكن أن نقبله من حمورابي، او من وجيه وطني يتحدث بحرص عن البلد: "الذين يظنون ان عالمنا مغلق في طريقهم، إعلموا أن بعد الضيق متسع".
تناوبت الملكة والمعلمة على بث روح البهجة وسط سعار الحرائق المنظورة في مكان الرواية وزمانها.. العراق بعد 2003 وغير المنظورة، في وجدان سنا: "لملمة كيانها وأساها ولوعتها" و"بعد الضيق متسع".
بل الملكة إيسينين تحيل حب زوجها الغريزي، الى ولاء وطني: "ثروة الملك حب شعبه، الحياة قاسية وما يجعلها مقبولة حبنا لبعضنا" وهو خطاب يفخر به الملك: "يبصر حمورابي أيسينين تقف ببهاء بين جمهور الحاضرين.. إمرأة طويلة رشيقة القد... اشتد هيامها، عاشقة تقول اشياء لا يعرف تفسيرها إلا المحب".
أخطاء نحوية وإملائية وطباعية، كان بالامكان تلافيها على يد مصحح محترف، لم تثلم البناء الروائي المشوق.. المحبك فنياً بإجادة.