الأطروحة الفنتازية

ثقافة 2021/05/04
...

لؤي حمزة عباس
ثمة مؤلفات نادرة، غرّدت خارج سرب التأليف الحديث في الثقافة العراقية منتجةً إيقاعها الخاص، وهو ما عوّل مؤلفوها على أن يمتدَّ ويتسعَ بحكم ما في مؤلفاتهم من جدّةٍ وفرادة في مادة التأليف وموضوعه ونظامه، في القلب من هذه المؤلفات كتاب علي الشوك (الأطروحة الفنتازية) الذي يفصل بيننا وبين عام تأليفه أكثر من سبعين عاماً، واليوم وقد عبرت الأطروحة حدود القرن العشرين متجاوزةً فضاء العقد الثاني من القرن الجديد، يمكن أن نُعيد قراءته لا بهدف التذكير به، فلم يُقدّر له أن يُنسى، وها هو يُطبع مرةً أخرى بعد كلِّ هذه العقود على طبعته الأولى، ويُهيأ لجيل جديد من القرّاء ربما لم يكن في ذهن مؤلفه لحظة التفكير بتأليفه، جيل يختلف عن الجيل الأول من قرّاء الكتاب، باختلاف الشرط التاريخي وتغيّر الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي شكّلت حواضن قراءةٍ تؤثر بشكل أو بآخر على طبيعة القارئ وعلى صلته بما يقرأ، لذا سيكون من الموضوعي التفكير بنوعية الاستجابة التي تتحقق مع القارئ الجديد وهو يسحب الأطروحة من رفٍّ أثقلته كتبُ الفن المؤلفة منها والمترجمة، والكتب التي تبحث في الدادائية على نحو خاص، تاريخاً واتجاهاً وفلسفةً وانجازاً، وإذا كان النظر إلى الدادائية بوصفها حركة توجهت لمحاربة الفن السائد والتبشير بفهم جديد للفن، قد تغيّر مع مرور الزمن واتساع المعارف، وأهمها معرفة الفن ومعرفة الإنسان، فمن الطبيعي أن يتغيّر النظر إلى المؤلفات التي تبحث فيها، وإن حافظت هذه المؤلفات على فرادتها وغرّدت طوال عقود خارج السرب.
لم يختر علي الشوك لتأليف كتابه طريقاً عبدّته خطوات من سبقه من المؤلفين، وإنما شاء أن يحقق طموحاً في انجاز كتاب يقترح الطريق والخطوة والمسار في الجمع بين لغة الرياضيات وعلم الهندسة والتفكير الموسيقي، لعرض فرضياته وإحكام معادلاته في جوٍّ من المعرفة الأدبية التي تُعمق أثرها شذرات من النثر والشعر، عربية وأجنبية، تؤدي في الكتاب دور المراجع الحرّة، في سعيه لتقديم (معزوفة جديدة) تكون أقرب إلى روح العصر ومغامرة الحضارة، هكذا يتعدّد الاستطراد في أطروحة علي الشوك فيكون جرسياً، وصوفياً، وحركياً، وهامشياً، وميتا هامشي ـ وهي المرّة الأولى في ما أظن التي تستعمل فيها الـ (ميتا) في الثقافة العراقية ـ لينتقل الكتاب من المعرفة المجرّدة إلى المعرفة التجريبية ببعدها المكاني "ورحت إلى مخزن "أورزدي باك" أبحث عن هذه المعزوفة الميتا موسيقية، وعن فاكهة شهرزاد، إن جناحهم الموسيقي يقع في الطابق الثالث، كما أنهم يعرضون فاكهةً اصطناعيةً لذيذةً". 
الكتابة عن الدادائية تقترح سبيلاً دادائياً يكون للخيال فيه حضور لافت، فهو الذي يجمع بين كتاب القزويني (عجائب المخلوقات) وكتاب غايتان بيكون (آفاق الفكر المعاصر) بوصفهما مصدرين في قائمة مصادره، فضلاً عن الأخبار التراثية والحكايات القديمة المنوّعة وقد قدمت أكثر من برهان على عمق الدادائية الضارب في التفكير والممارسة على امتداد التاريخ، كما حملت في جوهرها هاجساً فنتازياً يكسر حدود الواقع محاولاً الوصول إلى ما وراءه، والفنتازية كما يقدّمها علي الشوك في عتبة كتابه "الخيار، الوهم، النزوة، الهوى"، وهي أيضاً "لحن موسيقي متحرّر من قيود الأشكال التقليدية"، وهو ما عمل على تحقيقه في تأليف كتابه: التحرّر من قيود الأشكال التقليدية.