إشارات

ثقافة 2021/05/04
...

  رعـد فاضل
 
* لا يبتعد العشق عن كونه عصاباً مستعصياً ذلك أنّ صورة العشق، هنا، مطلقة في أذهان حامليها، في الوقت الذي لا بد فيه أن يكونوا نسبيينَ، لأنّ صورة العشق فعليّاً ما هي إلا ((شعور بالغياب، وابتعاد عن الحقيقة يعيشهما العاشق في مواجهة العالم)).
* عمقيّاً ما الأمل إلا ستراتيجيّة أن: ننتظر، وليس تكتيكاً لكي ننتصر بعد تحقق ما كنا نصبو إليه من وراء تلك الستراتيجيّة. الأمل سياسة الكسل واليأس.
* على الشاعر أن يفهم كيف يقدم نفسه صوَريّاً أوّلا لأنّ ((الصّورة فجر الكلام))، في ما كل تلك المعرفة التي يتمتع بها ما هي إلا تواصل وتطوّرُ هذه الصورة معرفيّاً، كما تطوّر الفجر إلى نهار ثمّ ليل، ليعود إلى صورته الأولى بوصفها مرأى الكلام.                                                                 
*  من حسن حظ البشريّة أنّ النبوءة الثانية لفلكيي الهند القدامى هي مَن تحقـقـت لا الأولى، وإلّا لما كان سيداهارتا غوتاما الشّهير ببوذا توّابَ البشرية ومتيقِّضَها، على الرغم من أنّه عُـيِّش حياةً ملؤها الرغد والترف والفروسية رغبةً من أبيه الإمبراطور بتحقيق النبؤة الأولى في أن يكون بوذا ملك البشريّة، فأصبح بالنّبوءة الثانية من ملائكتها.
* الصديق بوصفه قريناً: هو أنا آخَـر. إعرف نفسك بنفسك. صديقك هو آخرُ أنت. الأولى لفيثاغورس، والثانية لأفلاطون، والثالثة لابن عربي. هذا مثالٌ على كيف يتمّ تناسل المغزى ويتحوّل عبر جسد الزمن بصياغات متنوّعة متداخلة كأنها توائمٌ، سوى الشّاعر ييتس الذي تخطّى المعنى المتناسل المتوازي بحرفه المغزى عن سياق هذا التوائم المتناسلة، أو في الأقلّ فتحه ووسّعه وعمّقه أكثرَ إلى ((إنّ القرين هو مقلبُنا، ضدّنا، المكمِّل لنا، ذاك الذي لسنا هو، ولن نكون)).
* ماذا يمكن أن يعني كونفوشيوس غير أنّ كل شيء في الوجود قد يمكن ايقافه سوى المعرفة، بعد زيارة قام بها إلى السّيد الطّاوي القديم لاوتسو (604 ق.م) بعبارته الشهيرة ((اليوم قابلت لاوتسو، ويسعني القول إنني رأيت التنين))؟ علينا أن لا ننسى بأنّ التـنين في الثقافة الصينية يأتي على رأس هرم الرموز السّحرية، إلى جانب أنّه يصنف وفقاً للإيجِنك (كتاب المتغيّرات) رمزاً للحكمة. نقرأ في (كتاب الموتى) المصريّ القديم ((يحلف الميت أنه لم يكن مسبِّباً لجوع أو دموع، وأنّه لم يقتل ولم يحرّض على قتل، وأنّه لم يسرق، ولم يزوّر الأوزان والمقاييس، وأنه لم يحرم فمَ طفلٍ من الحليب أو الحيوانات من العشب، وأنّه لم يتخذ الطيور آلهةً))، وإذا لم يُصدق يحال بوصفه ظلا من فوره إلى ((ملتهِمي الظلال)). مثل هذه التعاليم الأخلاقية الضبطيّة لم يستثنِ واضعوها سوى ملوك الفراعنة كونهم آلهة. من هنا نفهم سرّ تأكيد هذا الكتاب على أنّ عالم الحياة هذا افتراضيّ متوهمٌ به، في حين عالم الموتى (الآخر) هو الفعليّ لأنه حقيقيّ لأنه المجهول الدائم. وهذه الرؤية كما نرى ليست ببعيدة عن المعرفة الصّينيّة، ولا عن اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام.
* يزعم اِيزودور الإشبيليّ -العصر الوسيط- أنّ ((المسيح هو أسدٌ لأنه يسود ويمتلك القوّة، وهو نسر لأنه بعد القيامة يصعد إلى السماء)). كما زعم ديدرون بأنّ ((البابا، بوصفه نسراً يرتقي إلى عرش الربّ كي يتلقى إرشاده، وبوصفه أسداً يقيم على الأرض بقوّة وبأس)). هذا يعني من تطابق الصّفات مع الموصوفينِ (المسيح، وشخص البابا) بأنّ المسيح يظلّ يولد دائماً عبر الزمن من خلال تعاقب البابوات، وهذه هي ايقونة فكرة الخلود للمسيح إذ إنّه يتناسل روحيّاً في أجساد أُخرَ غير جسده الأصلِ، أو هي في الأقلّ تجسيد واقعيّ لظلّ هذه الفكرة، أي إنّ المسيح يظلّ يتمدّد ليس بوصفه فكرة حسب وإنّما لكونه جسداً أيضاً في جسد الزمن.
* كلّ ليلة وبعد أن أنتهي من القراءة أو الكتابة، أستلقي وأنظر من نافذتي إلى الظلام مردداً: هل حقاً هذا كل شيء؟ مع هذا كلّ صباح أُعـد لي فنجان قهوة وأتناول إفطاري وأنصرف إلى شؤوني ناسياً أو متناسياً، لا فرق: أني سأسأل السؤال نفسَه في الليلة المقبلة على جري عادتي وأنا أنظر كما في كلّ ليلة إلى الظلام، متذكِّراً عبارة فيها بعض عزاءٍ وإن كانت أليمة ((يمضي الوقت، كل قصيدة تستحيل مرثيّةً، فالكتبُ ترمِّم الماضي)).                                                                      
* أن يتخطى أحد ما ذاته مؤقّتاً في محاولة منه لفهم الآخر، يعني أنه يحاول إفساح المجال له للتعبير عن ذاته حتى إن كان ما يعبّر عنه مختلفاً، أو حتى متقاطعاً معه. هذا يعني أنّ هذا (الأحد) إنما يمارس ما يعرف بـ (التسامح) مع آخره وصولاً إلى (التعايش) معه، وفي هذا نوعٌ من المِران للوصول إلى تقبّل الآخر، نوع من الانفتاح نوع من نبل التلقّي، فأنْ تتخطّى ذاتك أو في الأقل تحيّدها وإنْ مؤقّتاً: قمّةُ النّبالة. غير أنّ هذا لا يعني الارتماء في الوثوقيّة، على العكس تماماً، إنما يعني أن نتخطى أو نحيِّد لا لنسلِّم من باب التسامح في تقبّل هذه الآراء المتعايَش معها والتماهي فيها، بل: لننقد، إذ ما من معرفة حقيقية من دون فحص المعلومة وتشريحها لنقدها، ذلك أنّ المثقف الحقيقيّ ((مسؤوليته الفكرية ليست هي مسؤولية الدّفاع عن الحقيقة ورعايتها فقط، وإنما هي مسؤولية تقصي الأخطاء)). 
أي لنكون نقديين على الدوام لا وثوقيين كي نظل شكاكين، إذ ما من وثوقيّة لازمة مع المعرفة. لنكون كثاريين، أي مخلَّصينَ من منطق فرض ما نؤمن به على الآخرين، وهذا عمقيّاً سيمتع ذواتنا أنفسَها بنوع من ديموقراطيّة نقد آرائنا أنفسِها، أي لنكون مختلفين معها حتّى نظل في تخط وتجاوز متواصلينِ لما نحن عليه في كل مرّة، وما سنكون عليه بعيداً عن البدهيّات والمسلمات واليقينيّات.