قطوف من سيرة مرتجلة

ثقافة 2021/05/04
...

 محمد صابر عبيد
 
(1)
كنت أنصت إلى هاتفٍ يدلقُ في أذني كلاماً لا يمكن أن أحمله إلا على محمل الحسد والغيرة والنقص والتنمير، وبما أنّه ليس جديداً عليّ ولا مفاجِئاً لي فسأستثمره بوصفه مناسبة مشروعة لقطف ثمرة ربّما لا تكون ناضجة من سيرة مرتجلة. لا أفكر قطعاً بتدوين سيرتي الذاتيّة كما يفعل أصحاب التجارب الخصبة الكبرى في الحياة ممن تستحق سيرُهم أن تروى وتُفيد وتحتذى، فتجربتي في الحياة بسيطة وليس فيها ما يرقى إلى تشجيعي على روايتها وإشغال الناس بها، ليس من باب التواضع أبداً فأنا أمقت التواضع الكاذب الذي ما أنْ تكشط قشرتَه الخارجيّة الصدئة، حتى تتكشف لك طبقة لزجة من الغرور والوهم والبطولة الزائفة والادعاء المقيت، بل من نافذة معرفة الذات تماماً والاطمئنان على أنّ ما مررت به في حياتي وما فعلته وما غامرت به، لا يعدو أن يكون سيرة طبيعيّة لأكثر الناس الذين أعرفهم وأسمع عنهم وأراهم، وطالما اعتذرتُ لأصدقاء أحبّة وجهوا لي دعوات كريمة لبرامج تلفازيّة أتحدث فيها عن تجربتي، واعتذاري نابع أساساً من قناعتي الراسخة بأنه ليس لديّ من الامتياز ما يؤهلني لإفادةِ من سيسمعني ويقضي وقتاً ثميناً في الإصغاء إليّ.
 
(2)
وأنا أرى الشجرةَ تحيلُ نفسها على التقاعد أشعر بأقصى درجات الحريّة والانطلاق والصوفيّة، سأهجر أعالي الأشجار إلى أرضيّةِ الظلال، وأستريح على جُرفِ الوحدة كي أرى ذاتي بوضوحٍ بعيداً عن العواصف التي لا تفهم جوهر روحي، لا يعنيني أن أكون زعيماً للحداثة وقد أهملتُ في حياتي زعامات كثيرة لستُ جديراً بها، يكفيني أن أكتب إنشاءً يُسعدني ويسعد من حولي مهما كان عددهم قليلاً، وأنا أحتفي بالقلّة الهائلة دائماً، سأهجر الذكريات وأغادر الرسوم الدارسة ولن أبكيَ على الأطلال كما كان يفعل شعراء الجاهليّة، وسأواصل كتابة الإنشاء بـ(كمالٍ) روحيّ قد لا يفهمه اللصوص والعيّارون من أبناء المصادفة، ولن أدفع هذه التهمة الجاهزة عن نفسي؛ بل أكرّسها في رؤوس أصابعي بوصفها أداة من أدواتي الساحرة الجالبة للحسد والغيرة، ولن ألتفتَ إلى الوراء مهما كان مغرياً لأنني مشغول بالصباح المقبل من ثغر الأفق؛ وهو يتقافزُ نحوي مثل غزالٍ بريٍّ غيرِ أليفٍ على رؤوس أصابعه، حيث يخبئ لي مزيداً من المفاجآت والدمى والملابس الجديدة التي كنتُ أتطلع إليها في سنّ الخامسة قبل سويعات من حلول العيد، وسألتَهِمُ مزيداً من قِطَعِ (الحامض حلو) بنهمٍ ولذةٍ وطمأنينةٍ سعيدةٍ، وأودعُ كلّ ما هو وظيفيّ إلى غير رجعةٍ، وأرتدي أحلامي البسيطة الصادقة وأسافرُ فيها مثل سندبادٍ فاقدٍ للذاكرة في ما يتاح لي من آفاقٍ نديّةٍ لا تحمل قَدراً كثيراً من حماقات الأسئلة.
 
(3)
أنا كاتبٌ حسيّ لا أحبّ النظريات اليابسة التي تسبّبُ لي عسراً في الهضم وضيقاً في التنفس، لذا يستحيل عليّ أن أكون فيلسوفاً مُنظراً على الرغم من رغبتي الجامحة في التفلسف واللعب والمشاغبة حين تطاوعني مخالبُ اللغة، وكثيراً ما يُعابُ على كتابتي أنّها تبتعد عن التنظير وغالباً ما أؤكّد هذا ولا أنكره، إذ لم أشعر بالحاجة الإنسانيّة العميقة لهذا الذي يسمّونه "التنظير"؛ ولا أستجيب عادةً إلا لحاجاتي، ولم أفرض على نفسي ما لا تحتمل مهما كانت المغريات، لا أجيد الكتابة إلا تمثّلاً وصدقاً لما أراه وأسمعه وأحسه بعمق وحيوية ولذة ورغبة وجموح، ولا أزعم مطلقاً بفرادة ما أكتب وقدرته على الإضافة، فقد سبقني ملايين من الكتاب الذين ربّما كتبوا كلّ شيء قابل للكتابة، وهم أجدر مني بذلك وأكبر موهبة وأكثر إعداداً معرفياً وتبحراً باللغة وبلاغتها ومجازها وشعريّتها، وحسبي أنني أجيب عن أسئلة ذاتي ولا أرغم أحداً كي ينصتَ لحنيني الداخليّ وآهاتي المضمرة، ومن يتكرّم عليّ بذلك لا يسعني إلا أن أصافحه بحرارة ومحبّة وأهمس في أذنه: "جَبَرَ الله خاطرَكَ".
(4)
أضطرّ في كل مرّة –وللأسف الشديد- أن أتحدث عن نفسي بهذه الطريقة وكأنني أقترف ذنبَ تدوينِ قطوفٍ من سيرتي الذاتيّة خارجَ إرادتي، مع أنني لست مَعنيّاً بذلك البتةَ، غير أنّ ثمة من يدفعني قسراً نحو هذه الحماقة حين تسوّل له نفسه التعرّض لي متبرِّعاً بالإساءة بلا مناسبة ولا ضرورة ولا جائزة، فيوقظ في داخلي ما أحبُّ أن يبقى غافياً بسلامٍ على شاطئ الإهمال والنسيان والوحدة الأليفة بعيداً عن موجات الغبار، لا أرغبُ أن أسير على طُرُقٍ ترابيّةٍ لا تفهم إيقاعَ قدمَيّ جيّداً، ولا أن أرتديَ معطفاً لا يلائمني، ولا أن أحتسي شراباً لا أرى ضحكةَ اللذة فيه وهو يندفع بسرورٍ نحو جوفي، فقد يقيم في ضميري متصوّف صغيرٌ يرفضُ أن يكبرَ مهما تقادمت عليه السنين وغذته بالحكمة وطاقة التجاهل، ومن واجبي الأخلاقيّ أن أنزع عنه ما عَلِقَ بترجمان أشواقه من أشنات طارئة، فلا يليق بمن يندرج في سياق التصوّف – مهما كان بسيطاً وصغيراً- إلا أن يكون عارياً من التوافه. وأظنّ -على طبقة اليقين لا الشك- أنّ من يلعب بِكرةِ غيره لن يصيب الهدف، ومن يعتدي على بستان غيره ستمتلئ جبهته بالخدوش، ومن يتلصص على جارهِ سيصابُ حتماً بالعمى.