الكمال الفني سبيلا لخلود الروح في قصيدة (الإبحار الى بيزنطة) لوليم بتلر ييتس

ثقافة 2021/05/06
...

  محمد تركي النصار 
يعد وليم بتلر ييتس واحدا من أهم شعراء الغرب بنظر العديد من النقاد وهو شاعر ومسرحي إيرلندي ولد عام 1865 وتوفي عام 1948، له العشرات من المؤلفات الشعرية والمسرحية، حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1923. تتحدث قصيدة (الإبحار الى بيزنطة) لييتس عن رجل عجوز يسافر الى مدينة بيزنطة التي تمثل ملاذا روحيا له.
 
وبينما يقوم المتحدث في القصيدة برحلة حقيقية الى بيزنطة، بإمكان القارئ أن يؤول الرحلة بوصفها مجازا لتمثيل مسيرة الفنان الروحية. إذ يشعر المتحدث في القصيدة بأن البلد الذي يقيم فيه ليس مكانا صالحا لكبار السن ولا يحتفي الا بالشباب واليافعين فقط.. لذلك يقرر السفر الى بيزنطة، محاولا العثور على ملجأ من عذاب النفي والاهمال ذاهبا الى عالم خيالي، مفكرا بمصير الناس جميعا، فيما يكون العالم الذي يسعى الشاعر لمغادرته مفتونا بالموسيقى الحسية الشهوانية، ممثلا بالطيور التي تغني وأجسام بقية الكائنات الفانية، هنا يكون طغيان الحس والشهوة عائقا أمام نمو المنجزات العقلية والروحية التي تبرر وحدها وجود الرجل العجوز والتي من الصعب انتاجها في الأزمنة الحديثة التي تتسم بالفوضى:
ليس هذا بلدا للرجال المسنين
الشباب يدا بيد، الطيور في الشجر
الأجيال القديمة التي تنقرض
 أغنياتها ترقص أسماكَ السلمون
والبحار تضج بسمك الماكريل،
هذا الذي يولد ويتكاثر ثم يموت.
منغمس بتلك الموسيقى الحسّية 
متجاهلا منجزات الروح الخالدة 
 
يعبر ييتس عن ثيمات متعددة في هذه القصيدة، فالإبحار الى بيزنطة يمثل الروحانية. هنا يشير الشاعر الى نوع مختلف من الروحانية لا يتركز حول مفهوم الزهد، بل يتمحور حول الاحتفاء بالعمل الفني الذي يهذب الروح ويرفع من قيمتها. كذلك نجد ثيمة الاختلاف في الاهتمامات بين الشباب والشيوخ، والفن والخلود والنظرة المتناقضة بين 
الاجيال. 
فالشباب وفقا لرؤية الشاعر هو زمن المتعة، والرغبات الأرضية، بينما تكون الشيخوخة مكرسة لاستخدام الحكمة لإعلاء شأن الروح، ويتحدث الشاعر عن موت الثقافة في زمنه مشيرا الى دور الأعمال الفنية الكلاسيكية وأهميتها والتي من الممكن أن تدوم للأبد.
في البيت الأول من القصيدة جملة فيها افصاح واضح (ذلك ليس بلدا صالحا لعيش كبار السن)، من هنا يلتقط القارئ قاموس ييتس منذ الوهلة الاولى، فعلى سبيل المثال يستخدم الشاعر مفردة (ذلك) بدلا من (هذا) ما يظهر ان الشاعر يضع مسافة بينه وبين بلده دليلا على احساسه بالمرارة وما يشبه الطرد وهو الأمر الذي يرينا أيضا أن الشاعر قد حسم أمره وانه ربما يكون قد انطلق في رحلته مع بداية القصيدة.
يعلق المتحدث حول الكائنات التي تسكن في بلده السابق، وبدلا من التركيز على الأشياء التي تدوم للأبد تتمتع هذه الكائنات فقط بالأشياء التي أمامها في اللحظات التي تعيشها 
حسيا.
تستمر الصور الطبيعية حيث يفصل المتحدث الكائنات التي تعيش هناك ويخبرنا ان جميع هذه المخلوقات ستصيبها الشيخوخة ذات يوم أيضا، الطيور والأسماك وكل الكائنات الاخرى التي تعيش حياة غريزية مادية تقضيها بالإنجاب، إذ تولد هذا الكائنات وتعيش منغمسة بالجنس والتكاثر ثم تذوي وتموت ولا تكترث للوجود الروحي والجمالي. 
ونلاحظ الاحساس بالمرارة في المقطع الثاني نفسه إذ يتحدث ييتس عن غربة الشيوخ مقارنا اياهم بأشياء عديمة الأهمية، مؤكدا بأن لا شيء ترك للرجل المسن، وهو ببساطة عبارة عن عصا ترتدي سترة بالية ممزقة، هنا يشير ييتس الى أن شيخوخة الجسد لا تعني شيخوخة الروح دائما، وها هي روح الرجل الكبير تصفق وتغني بصوتٍ عالٍ. ولا بد لروح الرجل العجوز أن تكون قوية لتهتم بالقيم الروحية التي يتجاهلها الشباب.
لذلك فعليه أن يبحر الى بيزنطة التي يصفها الشاعر بأنها مدينة مقدسة وتمثل رمزا دينيا وروحيا لكل ما هو مثالي، جمالي وتحتفي بالفن بوصفه قيمة مستقلة قائمة بذاتها:
 
أيها الحكماء الواقفون في نار الآلهة المقدّسة
مثل الفسيفساء المذهبة في الجدار 
تعالوا من النار المقدسة، 
وكونوا أسياد غناءٍ لروحي.
طهروا قلبي الذي تتآكله الشهوة 
والمشدود لحيوانٍ فانٍ
 
لا يعرفُ حقيقته، واجمعوني في حيلة الخلود.
وفي المقطع الثالث نرى بروز البعد الميتافيزيقي في النص فعقب وصوله الى بيزنطة يتوجه المتحدث إلى حكماء المدينة وعقلائها الذين يجدهم هناك واصفا إياهم بأنهم نار الإله المقدسة والذين تطهروا من أخر بقايا الشهوانية. هؤلاء الحكماء يبدون مثل الاشكال التي تظهر في موزائيك الجدار الذهبي في دلالة رمزية لخلود الروح ومنجزات العقل الفنية 
والفكرية. 
ونرى ان الشاعر يخاطب أعلام الفن ورموزه الخالدة ليستلهم منهم قوة الروح المفعمة بالحكمة، سائلا هؤلاء الحكماء ان يساعدوه للتخلص من عذاب الحواس والرغبات الأرضية، فالتجارب التي عاشها في بلده أصابت قلبه بالاستهلاك الحسي، والآن يرجو الرجال الحكماء أن يساعدوه على الخلاص والوصول الى معنى التحرر الروحي الحقيقي.