الشعر ولحظة الكتابة

ثقافة 2021/05/06
...

طالب عبد العزيز 
لا يمكن الحديثُ عن لحظة كتابة القصيدة، وتراتب نشوئها وسيرورتها الأولى إلا بما هو ضيّقٌ وشخصي جداً، وبعيدٍ عن المشتركات التي يعرفها أو يتساوى فيها الجميع، خلال اللحظة الفاتنة تلك، والتي منها الاستعداد النفسيّ، والقراءة المُسبقة، ومحاولات استقدام اللغة، وتدوين البيت الاول، أو رسم الخطوط العريضة للقصيدة، وما الى ذلك، مما يعرفه -عن قرب- المشتغلون في حقل الشعر صوغاً ونقداً، والذين تتباين لديهم اللحظات الشعرية بدرجة او أكثر، ولله أقول: ما أصعبها وأجملها من لحظات.
 وهنا، سيكون بمقدوري استحضار تفاصيل هي غاية في الدقة والمجاهرة، تخصُّ الكثير من القصائد التي كتبتها، والتي شكّلت بعض ملامح تجربتي الكتابية. ولا أجزم بتذكر كل اللحظات تلك، فالأمر أعقد من هذا بكل تأكيد، لكنني، ومثل أيِّ شاعر آخر، يمكنني تصنيف ما كتبتُ من الشعر بين الحسن والمتوسط والعادي، معتمداً ومهتدياً بآراءِ بعض النقاد والاصدقاء، وعلى سبيل المثال هنا، أتذكر بحبٍّ وزهو بالغيَن لحظة كتابة القصائد التي ظننتها ناجحة، مثلما أتذكر بحزن وألم اللحظات التي كتبت فيها القصائدَ التي أخفقتُ في كتابتها، مثل قصيدة (ما لا يفضحه السِّراج) التي حملتْ اسم كتابي الشعري الثاني/  صدر عام 1999 والتي كتبتُها تحت إغراء النجاح الباهر، الذي لاقته قصيدة (هذا خبز) لصديقي الشاعر عبد الزهرة زكي، القصيدة التي أرّخت وبجدارة مرحلة موجعة في تاريخ الحياة العراقية.
لا أنفي وجودنا معاً في ظروف انسانية وثقافية كثيرة، ووقوعنا تحت تأثير الايام المفزعة تلك. وللتوضيح أكثر هنا أقول: كان (الجوع) الذي عانيناه والاسرة العراقية بعامة، في حصار التسعينات ثيمة القصيدتين، وقاسمهما المشترك، لكنْ، وبتعقب الاسباب والنتائج سأقع على علة إخفاق قصيدتي (ما لا يفضحه السراج) ونجاح (هذا خبز) مع ما بيننا من تقارب في فهم الشعر وآلية كتابته، وما نرزح تحت صخرته من الجوع والحاجة. هل كان الخبز في بيت عبد الزهرة زكي أمرَّ طعماً من الخبز الذي في بيتنا، مع يقيني باختلاف نَوالنا منه، وطغيان أسمره عنده على بياضه عندي، وأنني استقحطتُ الشعر (من القحط) في القصيدة، فيما كان مبذولاً ومصرّحا به لديه. أعترف لقد كانت غيمته في القصيدة مدراراً في حين كانت غيمتي يابسةً. 
  تجترح كلُّ قصيدةٍ لغتها وشكلها وأسلوبها ولحظة كتابتها، وتنفرد كل قصيدة بموضوعها وعالمها الذي لا يتكرر إلا قليلا. وما يُهمل منها ويضيع في الليل لن يستعاد في النهار، مهما أوتي صاحبها من القدرة والاستطاعة. حدث ذات مرة، أنْ أمضيت ساعتين وأكثر نائماً أو شبه نائم، مستأنساً بريش الوسادة، أكررُ أبيات قصيدة، أحسبها من جميل ما أوتيت، تتبعت أبياتها وهي تتوالى على لساني، لكنني، لم أجرؤ على النهوض، ومن ثم الكتابة، ليقيني الزائف بقدرتي على استعادتها، والذي كان محالاً، فقد ذهبت القصيدة الى غير رجعة، ولم يبق منها إلا فكرتها، التي لن تنفعني بشيء.