عصاميَّة رجل

الصفحة الاخيرة 2021/05/08
...

جواد علي كسار
من صفات الراحل حميد معلة حرصه على سماع الآخرين، بل الإصغاء إليهم لكي يستفيد، أذكر أننا التقينا مرّة في مطار بغداد من دون ميعاد مسبق، وقد كانت وجهتنا إلى مكة المكرّمة، هو ممثل لبعثة المجلس الأعلى قبل أن ينشق تيار الحكمة عنه، وأنا في تغطية إعلامية للموسم.
عندما فُتح الباب المؤدّي إلى ركوب الطائرة، هبّ المسافرون تلقاءه وحصل شيء من الزحمة، بل التدافع المذموم في مثل هذه الحالات، شخصياً بقيتُ ومعي ثلّة من الإعلاميين جلوساً في أماكننا لم نُحرّك ساكناً، وكأن الأمر لا يعنينا، اقترب مني المرحوم الشيخ حميد معلة، ونبّهني بلطف على أن بوابة الركوب قد فُتحت، فقلتُ له: أجل، لكن لي ومن معي من زملائي الإعلاميين طريقتنا الخاصة في الصعود إلى الطائرة، تنتهي إلى فلسفة معيّنة في التعامل مع مظاهر التخلف والخلل الاجتماعي، سألني باهتمام وحرص عن هذه الطريقة والفلسفة التي نستند إليها.
ذكرتُ له أن مجتمعنا وقد خرج للتو من حكم الاستبداد، لا يزال يحمل معه في ثقافته وسلوكه رواسب تلك الحقبة، والمفروض بالنخبة السياسية، ألاّ تقف متفرّجة ازاء هذه العيوب وتنعت المجتمع بالتخلف، لأن الفرجة والإهمال والازدراء لا تُعالج المشكلة ولا تقضي على مظاهر التخلف، بل المطلوب من هذه النخبة مبادرات لاستئصال هذه المظاهر، وبعضها لا يحتاج سوى إلى تدبير بسيط.
ففي الحالة التي نحن فيها لستُ أعرف لماذا تهمل الجهات المعنية في المطار، وضع أرقام محدّدة لكلّ راكب على بطاقة الركوب، لاسيّما ان هذا التصرّف يُخالف الفلسفة المعروفة لهذه البطاقة، ما يؤدي إلى الزُحام وتدافع الركاب، بعكس ما لو كانت الأرقام موجودة، فإن الراكب متى صعد إلى الطائرة، فهو مطمئن إلى مقعده.
لم يكن الإصغاء هو الخاصّة الوحيدة للراحل، بل حمل معه صفة التواضع الشخصي، فلم يختلف وضعه كثيراً قبل المسؤولية، عمّا صار إليه في مواقع المسؤولية التي تبوأها، كما مضى وهو يتحلى بعقل بارد إلى حدّ كبير، أخذ بيده إلى الهدوء والوسطية والميل إلى التسويات، ما جعله وسيطاً تطمئن إليه الأطراف عند الاختلاف وفي النزاعات، فهدوؤه وعقله البارد وعقلانيته أبعدته مجتمعة عن سلوك التشفّي والانتقام والثأر من الخصم، وعن الزهوّ والانتشاء والصخب والشعور النفسي المتضخّم بالانتصار على الآخر!.
لكن تبقى أبرز خصيصة لحميد معلة برأيي، هي عصاميته السياسية، فأنا أعرفه منذ عقود، وأعرف أنه دخل السياسة بجهده الخاص وبعصاميةٍ فذّة، فهو لم يلج السياسة من ميراث اسري أو حزبي يفتح له الأبواب ويفرش له المكاسب من دون جهد وبلا حساب، بل دخل هذا المجال من دون رصيد؛ إلا من جهده وكدحه وعصاميته الخاصّة رحمه الله.