كثافة البوح في «ازدواجية الزمن» لـربا قنديل

ثقافة 2021/05/08
...

  رنا صباح خليل 
العمل الأول لأي أديب أشبه بمغامرة صعبة لها مشاقها واشتراطاتها، فربما يفكر حين يبدأ عمله أن عليه أن يأتي بما هو يتجاوز المألوف، فيدخل في مواجهة عسيرة مع ما هو عام وشائع، الا ان الروائية الأردنية (ربا قنديل) استطاعت ان تتعامل مع ماهو معروف ومتناول في روايتها الأولى (ازدواجية الزمن) الصادرة عام 2015 عن دار البيروني، وان تدخل في بحث دائم عن تلك الأماكن الخفية في طبيعة تفكير المرأة وهي تمارس الحياة السائدة المقنعة للناس في كنف رجل، فذهبت الى كشف ما هو ليس أمام أعيننا لتعطيه أبعادا أخرى تغور في أعماق المرأة المثقفة تحديدا مسلطة الضوء على تأثير الحدث، أبعاد الصورة، تقويم السلوك، ما توحي به الإيماءة، ارتكازات المواقف ومنابعها. 
 
إزميل الروي 
وحجر الفكرة الأساس 
تركز الروائية على تقديم الذات الأنثوية بعيدا عن الطرح المعتاد لدى الروائيين في تتبع المشكلات الذاتية التي تؤرق المرأة، جاعلة من اعماق تكوينها فضاء لمرايا متقابلة ترصد صور ونتواءات الصراع، وما تعانيه أزاء شخصية الرجل الحبيب ومن ثم الرجل الزوج، وهي بذلك تنشد تحقيق التوازن المفقود بين الذات الداخلية للمرأة وذاتها الاجتماعية التي تحقق صلتها بالاخر، ما يعني أن صورتها في الرواية عبارة عن خليط بين ما ترغب بإعلانه وبين ما تضمره دواخلها، التي تشير اليها المعطيات الموضوعية للنص والمساهمة من ثمَّ في ردم الهوة ما بين الأنا والعالم، وما ساعد على ذلك أن الروائية نجحت في قلب الصورة النمطية المتمثلة بالمرأة المقهورة التابعة للرجل المحبة له بعينين مغمضتين لتهشم صورة الرجل المركز وجعله متواريا خلف اليد الطولى في النص التي تتحكم في مجريات الحدث وهي تقود بوهيمية الحب التي تمتع بها الرجل على الرغم من انها اضفت طابع الرقي لشخصية سهيل وهي تقدمه بصبغة الرومانسية التي تكلل الروي بشكل عام. 
قد تبدو ربا قنديل في روايتها انها تجاوزت خلخلة النظام الاجتماعي والثقافي السائد من خلال اتخاذها أسرتين ينحصر الروي في أفقهم مع الحرص على عدم إشراكهم الفعلي كأفراد في تنامي النهوض بالأحداث والتأثر بها أو التأثير عليها، وابتعادها عن تناقضات وازمات المجتمع الظاهرة والخفية على الرغم من ان ذلك قد يدعم النص وهي تسعى لإبراز مسوغات الولاء والانتماء لوطن آخر تمثل باليونان، وبعد ذلك السويد فإن سهيل كان عميلا مزدوجا في المخابرات يعمل لصالح اليونان ولصالح موطنه الأردن، إلا أن كفة اليونان كانت تتفوق لديه على كفة بلاده؛ ومرد ذلك ان الروائية كانت تؤسس لوعي جديد، ذلك ان الزوجة رولين بكل ما فعلته وما كابدته مع زوجها وما عاناه هو من ضرب واهانة وطرد من قبل السلطات اليونانية بعد افتضاح أمره، لم تستطع غرس حب الوطن فيه وكأن ذلك يحتاج الى فطرة أخرى وطينة أخرى ليس من الضرورة أن تتواجد في كل إنسان، ولإثبات ذلك تقول رولين في صفحة 286 من الرواية «أن لا تكتفي بالراحة فهذا ما يدعى بالأرق.. وأظن أنه ينوي أن يمضي في طريق يقرع بأذني إزعاجا وأرقا وترحالا.. بنظر الرجل أن ترتحل من مكان لآخر هو مغامرة بحد ذاتها، لكن بنظر الأناث فالسفر ليس سوى إرهاق وفوضى..».         
 إن من جماليات الرواية اعتناء الكاتبة بالتفاصيل في بناء الأحداث والشخصيات، ابتداء من وصف الأمكنة ورفد المشاعر بالتشبيهات والصور البليغة للحب وبث الافكار التي تنتاب المحبين من مثل «أن تكون عاشقا فهذا يعني أن حروف العتب جميعها كاذبة، وأنك الوحيد الصادق دوما..» ص43 من الرواية، أما توظيفها للأمكنة والأزمنة فقد أولته عناية خاصة في خطابها السردي، ذلك ان الرواية تحمل الكثير من التنقلات، الامر الذي أسهم في تحقيق ملازمة الأمكنة وشخصيات الرواية للأحداث وأزمنتها في حبكة فنية مؤثرة تتماهى مع الفعل تجاه ما فرض على شخصية رولين من الرضوخ لأمر التأقلم مع رغائب سهيل ولا محدودية انجذابه نحو التحولات التي تشكل انعطافا حادا في حياة زوجته رولين، ولعل ابرز ما تمظهرت به صورة السرد هو المزاوجة ما بين واقع الحياة اليومية وآفاقها الجديدة وبين الأحلام الوردية التي تنشدها الزوجة العاشقة بخيال سوريالي، ومن بين تلك الوقائع التي اجتهدت كاتبة الرواية في بثها بأسلوب يوحي بدلالات عميقة هو تخيير زوجها مابين البقاء معها والعمل لصالح بلد غير بلده بدافع تأصيل عملية الانتماء للوطن، وجعلها موازية لقيمة الحب الذي تكنه لزوجها، وفي ذلك اشارة لم تبخل الكاتبة في افهامنا اياها بوجود ماهو ايجابي في شخصية سهيل، إذ تحاول النبش عنه والوصول اليه ليدعمها بالمقابل في الانتصار لحب رولين وحريتها في معركة الحياة حين اتخذت القرار بعدم التخلي عمن تحب وتعشق، فشخصية سهيل تعد من الشخصيات النامية في الرواية التي تخضع لتحولات عدة؛ وكما ميزها (فوسر)، تستمد عددا من خصائصها من العالم المرجعي للقارئ، فضلا عن خصائصها المعطاة في النص، ما يعني أن صورتها في الرواية تمزج المعطيات الموضوعية للنص والمساهمة الذاتية للقارئ. 
 ثمة وقفات وصفية تتخلل الرواية كان ظهورها يرافق الانتقال من مكان لآخر موقفا عجلة السرد وتناميه مفسحا المجال امام التفاصيل الجزئية التي تلجأ اليها الروائية بوصفها تقنية قادرة على اختراق المجال الدلالي بغية التعبير عن افكار جديدة، على الرغم من ان المستوى الزمني للاحداث والشخصيات والأمكنة كان له بالغ الأهمية في بناء الفضاء الروائي، الا ان تلك الوقفات الوصفية كان يبدو فيها جليا قول الكاتب الفرنسي «كلود أولير» على لسان «ميشيل رايمون» إذ يقول «لا ينبغي أن نقول إن رجلا يسير، بل ينبغي تصوير ما يمر به على يمينه وشماله من أشياء»، والكاتبة تعاطت جماليات المكان على شكل جرعات تذوقية، ترتشفها الشخصية في كل يوم جديد وهي تهرول لحظاتها البهية والكئيبة لتقدمها للقارئ بصيغة تتمظهر فيها القيمة الكشفية للفضاء من خلال التجلي الابداعي للنص، ومن ذلك «.. أخذني لذاك المكان وصدق عندما أجاز التعبير عنه بالسحر.. هو ساحر لحد رهيب؛ صخور معلقة بالهواء، مروج خضراء، ينابيع وطبيعة مغرية.. هذا ما بحثت عنه دوما.. تلك المناظر طبعة أولى من كُتب خيالي التي طالما ألفت .. أن تسكن ريفا كهذا فأنت في نعيم وجنان» ص234 من الرواية. 
 
التضمين واللغة الشعرية 
في الرواية 
لم يكن تضمين النصوص الشعرية في الرواية مجرد صيغ تزيينية للفضاء الواسع للرواية، انما استدعته الحاجة للتعبير عن وظيفة الشخصية الرئيسة في الروي وهي رولين الشاعرة التي اجبرت السارد على تبني لغة شعرية في الكثير من مقاطع الروي لتحمل من التكثيف والاحاسيس والعواطف المعبرة عن الحزن والشجن والألم وحتى الفرح بشاعرية مفرطة، هذا غير ان الروائية قسمت عملها الى اربعة فصول تتضمن ازدواجية الحب وازدواجية الرحيل وازدواجية التعلق وازدواجية الوطن، وهذه الحالات المتضمنة حالات ازدواجية مختلفة تكون مبعث قلق واغتراب ومعاناة، مما يجعل الروح اقرب الى الحالة الشعرية في حاجتها الى البوح، ويظهر ذلك جليا عندما تتحدث رولين عن فقدها لأختها الوحيدة بحادث مأساوي يتم أمام أعينها وهي طفلة لم تتجاوز العاشرة، وغير ذلك الكثير الذي يتخلل نص الروي، في ما يخص عشقها لسهيل وفي ابتعاده واقترابه منها، وقد تثير جملة اللغة الشعرية بعضا من غموض إذ إن العمل الذي نحن بصدده يخص النثر، الا ان المقصود باللغة الشعرية عند النقاد في الرواية، تلك اللغة الفنية التي نتلمس فيها جانبا من الابداع «فيكون النص ذا طبيعة تقترب 
به من الكلام المنظوم بلغة ذات 
تكثيف مجازي، واستعاري وتوخي الايقاع في السرد وتضمين الكلام الكثير من الايحاء الذي تتصف به 
لغة الشعر» (1)، ومن ذلك «تعثر الحديث بحنجرتي.. شيء ما 
يجبر الحرف على خنقي، وقوة ترهب عظامي تسحبني للأسفل، 
يكتحل إثمدي بالدموع المتساقطة كأنها زخات مطر..» ص51 من الرواية. 
 
الهوامش: 
خليل ابراهيم، بنية النص الروائي، الدار العربية للعلوم، ناشرون، منشورات الاختلاف، ط1، 2010، ص255.