قصص القلق والأمل في (لغة الأرض)

ثقافة 2021/05/09
...

  ابراهيم سبتي
 يقوم مفهوم القصة القصيرة على استيعاب الحدث المحكي وتحليله والنظر اليه بعدسة مكبرة، ومن ثم ابداء الرأي عنه وإطلاق الاحكام. والقصة بمعناها العام هي حدث محكي يرتبط بالدلالات والعناصر المعروفة لكي تكون مقنعة وأكثر وضوحا في التأثر والتأثير، فهي تغوص في ثيمتها حتى تبلغ الهدف والقصد، ومن ثم تكون قد أدت مهمتها الصعبة، وهنا نقصد سيطرة القاص على نصه والامساك بخيوطه. 
 
فالقاص الماهر يكتب بلغة وأسلوب تفهمه الاكثرية مبتعدا عن ايراد العبارات الفضفاضة والمعاني الموسوعية والمفردات المنفوخة التي يعتقد أنها ستضيف حلاوة للغة وبدانة للنص.  مجموعة (لغة الارض) الفائزة بجائزة الطيب صالح لعام 2019 للقاص علي حسين عبيد، جاءت وفق منظور اللغة الواضحة والمقنعة والمفردات الخالية من التشظي والارباك وهلوسة الكلام، فأدت الغرض منها بأسلوب مهني أكثر اقناعا. فوجدت ان القاص تعمّق في سرد قصصة وفق خاصية الايصال للآخر بلغة مكتنزة مفهومة اخرجها من عباءة التعقيد والمجازات ووفورات الوصف غير المجدي والهذيان الصادح ودهاليز الظلمة.. فرسم خطوطا في صفحاته أكثر استقامة خلت من التعرجات والامتدادات غير النافعة التي غالبا ما تؤدي الى التيه والضياع.
غلبت على نصوص مجموعة (لغة الارض) القصصية، فكرة الحرب وتداعياتها وانتكاساتها النفسية وخساراتها ومكابداتها وأزماتها التي ستظل تلاحق النص الادبي الى آماد بعيدة. وثيمة الحرب أعتقد أنها تغني القصة بميزات انطباعية وعمق فلسفي وأحيانا جمالية وافتتان ان أحسن الكاتب رسم ملامحها. فكثير من الاعمال التي تحدثت عن إفرازات الحروب وويلاتها، قابعة في الرؤوس، لأنها لامست شغاف ذاكرتنا وخاصة من عايشها وكتب انزياحاته عنها. والقاص علي حسين عبيد هو أحد الذين أمسكوا بحبال الذاكرة القوية ليحيلها الى تداعيات وهوس غلّف اغلب قصص مجموعته بها وبمعانيها وفجائعها وإفرازاتها ولعناتها. 
بعد قراءة المجموعة، أوقفتني قصة (لغة الارض) والتي حملت المجموعة اسمها مع أني لاحظت ان جميع القصص الواردة في الكتاب ربما اعطت تأثيرات اللغة والحبكة نفسها وبالاسلوب نفسه، أعتقد أن هذه القصة قد جمعت المعاني والمقاصد والثيمات المتفرقة في المجموعة في جسد قصصي واحد، لذا اكون قد وصلت الى قناعة بأن القاص حاول التماهي تحت أستار القصة ليصنع منها مؤثرا نصيا جاذبا وصادما. ثمة حديقة في بيت تحوّل ترابها الى اللون الاحمر وصارت مريضة لا يرتجى تعافيها. تطلب الأسرة من ابنها الشاب «سلام» احضار أحد رجال قرية الاب الفلاح «خنياب» والذي يُطلق عليه طبيب الارض للمساعدة في إصلاحها كحل أخير بعد فشل كل المحاولات السابقة في استخدام المبيدات والعلاجات ولكن الجدب يأبى الزوال والموت الذي أمعن خرابا في النفس.
يأتي «خنياب» من القرية ويبدأ عمله بالحفر ويستخرج الطين العفن ذا الرائحة الكريهة (واصل الحفر ثلاثة ايام متتالية نادى على سلام ان يقرب منه، نصحه ان يتعلم لغة الارض وان يبتكر طرقا جديدة في الحفر ودربه بحنكة على ذلك) ص 125.  لكن القصة تسير بسرد هادئ وهي تخبرنا بأن «خنياب» يعثر على لقية ثمينة في باطن الارض (اخرج «خنياب» قطعة مستطيلة الشكل مغطاة بغلاف سميك مغطى بدوره بتراب رطب احمر) ص 126. بعدها يحاول صاحب الأرض «سلام» ان يتلقف بهمة عالية ما يفعله الفلاح من عمل شاق، ليزداد عوده صلابة وقدرة على تحمل عبء الحياة (ايها الشاب، ارضك تنتمي للحياة، فاحرص عليها من الخبث، راقبها جيدا، قد تعاني من أمراضها القديمة مجددا) ص 127.
تنتمي القصة الى نوعية القصة الهادفة التي تستفيد من ردة الفعل الذي بررته الثيمة الرئيسة عندما جعلت مسرح الاحداث (الحديقة) التي مثلت مرموزا أكبر واقوى وأكثر معنى (شرع الاحمرار الذي اصاب التربة يضمحل بالتدريج، وبدأت بعض الاشجار تنمو بإصرار غريب) ص 127. فكانت الوجوه تعبر عن تأثرها بما يجري من حولها وتحاول تغيير الواقع الى واقع أفضل رغم كل المصدات والحواجز. “خنياب” الفلاح، هو رمز الخلاص والتجديد، رمز المعلم الموجه بشخصيته القوية وحنكته المشهودة ومرانه على تطبيب الارض من جروحها ومرضها، وهو الذي بث الامل وزرعه في “سلام” المحبط واليائس والذي عانى المرارة والفشل. لقد استحضر الكاتب شخصية الفلاح كمعادل دلالي لمواجهة الفشل الذي يلاحق الشاب سلام الغارق في يأسه وقلة حيلته. 
فكانت شخصيته قد اتجهت بالنص نحو استنطاق الفعل الذي كان غارقا في الضياع والقلق وبث الامل الذي كان عنوانا لتكامل البنية الظاهرة في النص. ان الارتكاز الفعلي الذي منح القصة دلالة البحث لاستعادة خيط النجاة، قد رسم معالم أغلب قصص المجموعة التي غاصت في مساحات الألم والخوف والابتسامة الحبيسة وفظاعة الحرب التي توزعت بين اغلب القصص التي احتوتها المجموعة. لقد بررت ثيمة (لغة الارض)، المواقف التي تجاذبت بالشاب سلام ومنحته فرصة الانضمام الى الناظرين لشعاع الشمس بعين مفتوحة مشبعة بالأمل، ليلتقط ضوء النهار بعد ان كان غارقا في العتمة.
(لغة الارض) صادرة عن دار الفؤاد في القاهرة 2021.