القامع والمقموع في رواية {اسمي سليماني}

ثقافة 2021/05/10
...

 هدية حسين
جميلة عمايرة من الكاتبات الأردنيات المكرسات، قاصة وروائية من طراز خاص، تكاد لا تخلو قصصها من القتل، قتل الرجل تحديداً، على الرغم من أنها وبمعرفة شخصية تحمل من الرقة الكثير ومن الطيبة ما يعجز عنه اللسان، لكن القتل "الورقي" لا يجعل منها امرأة عدوانية تعيش صراعاً أزلياً مع الرجل، وفي أعمالها الأخيرة غادرت تلك المنطقة وانفتحت على العوالم الداخلية لكلا الجنسين، ساعدها في ذلك عمق التجربة والنضج الفني والخبرة المعرفية، وفي آخر أعمالها تسيّد الرجل واحتل المساحة كلها، ذلك هو سليماني الرجل الذي على الرغم من حصانته الأخلاقية وقع ضحية ابتزاز الكرتوني من امرأة، وبسبب ذلك الابتزاز تذهب جميلة عمايرة بعيداً للغوص في هذه الشخصية التي يطلق عليها الموظفون تحت إمرته بالمعقد والعبوس، فما هي قصة سليماني وكيف استدرِج للوقوع في الفخ؟.
 
يعمل سليماني بمصنع للنسيج (مدير شؤون الموظفين) وحين عُيّن بهذا المنصب لقي معارضة من بعض الموظفين الذين يرون فيه رجلاً لا يستحق هذا المنصب، فهو رجل يحتاج الى طبيب نفسي لأنه يكره حتى نفسه، أما سليماني فقد مضى بكل جدية أو بجدية أكثر مما ينبغي بتعامله الشديد مع الموظفين، لا يسمح بالتهاون في العمل، ولا بالتأخير، الى الحد الذي صار فيه يقف أمام بوابة الشركة ليرقب وصول الموظفين ويسجل المتأخرين منهم، وبلغ به الأمر أن يُصدر قراراً بإقفال البوابة عند السابعة والنصف وخمس دقائق، بالنسبة للرجال يُمنع التدخين وإطالة الشعر، ويجب حلق الذقن يومياً، وبالنسبة للموظفات منع إطالة الأظافر وتلوينها، وانسدال الشعر على الكتفين، وعليهن الاحتشام في الملبس، وعلى الرغم من صرامته هذه فله أيضاً من يؤيده ويرى فيه رجلاً يستحق ما وصل إليه فهو عصامي مشهود له بالنزاهة. والأخلاق الحميدة.
بعد أن أدخلتنا الكاتبة بجو ذلك الفخ الإلكتروني الذي حوله من قامع الى مقموع، بما فيه من حوارات واستدراج وتصويره عارياً، ولكي نفهم كيف سقط سليماني في الفخ تعود بنا جميلة عمايرة الى ماضي الرجل، طفولته ونشأته، وتضعنا أمام الطفل والصبي الذي كان ينفذ الأوامر من دون نقاش، إذ تلتقط جميلة عمايرة التفاصيل الصغيرة التي تشكلت منها شخصيته الإشكالية فلم يكن سوى فرد مقموع في الأسرة لا يتوانى عن تنفيذ ما يسمونه واجبات: إذهب، تعال، أدرس، قبل ذهابك للمدرسة اذهب لبيت عمك واخبره أننا ننتظره عند الساعة... هكذا كانت طفولته وشبابه، أما في في ما بعد فقد صار منفذاً لرغبة امرأة تعرف عليها في صفحة التواصل الاجتماعي فنزعت عنه كل القشور التي تكلست عبر السنين وجعلته يضحك من قلبه ويتخفف من أعباء حياته ويفتح أسراره القابعة في صندوق أسود مُحكم الإغلاق، لقد أحبها واطمأن لها واعتقد أنها المرأة التي ستغير حياته وستعوضه عن الحرمان الذي عاش فيه طيلة حياته، نعم غيرت حياته ولكن باتجاه عكسي، استغلت عاطفته وصورته عارياً ثم أرسلت له محادثاتهما بالصورة والصوت وهددته إن لم يدفع مالاً فسوف تنشر الفيديو الذي سجلته على اليوتيوب، هذا هو الحد السيء في التكنولوجيا المرعبة التي غزت حياتنا والتي لا يسلم منها لا المراهق ولا ذلك الرجل الذي سارت حياته مثل بركة آسنة ليسقط فيها حجر صلد وكبير ويحرك ماءها الذي ترقد فيه كل الحيوات الميتة، وتقلب موازين رجل طيب  عاش واقعاً صعباً وانتهى الى ما انتهى إليه من ابتزاز، وقد رسمت جميلة عمايرة تلك الشخصية بكل تعقيداتها النفسية، من رجل صارم عبوس الى رجل يغير المرح مسار حياته فيصبح بخفة فراشة غير مدرك بأن النار ستحرق جناحيه.
تنفتح الرواية أيضاً خارج سياق حياة سليماني، وتذهب الى مدينة البترا الأثرية، حيث يشتغل ابن سليماني على فيلم وثائقي، ومن خلال هذا الانفتاح سنطل على تاريخ هذه المدينة النبطية التي حُفِرت بيوتها ومدافنها في الصخر، ثم تأخذنا الكاتبة الى أيام الزمن الجميل بالأسود والأبيض وكيف كانت الحياة، والى قرية بيت دقو التي أنشأها الشيخ صالح بن ولي الله الرفاعي، تلك القرية التي تطل على الساحل الفلسطيني وكيف تركتها أسرة سليماني بعد هزيمة حزيران فظلت تضيء في ذاكرة من سكنها وعاش فيها، وسنعرف الكثير عن سليماني من خلال ذكرياته في تلك القرية التي وصفها الشيخ صالح بأنها ضوء من التاريخ لا ينطفئ.
انتقالات الكاتبة ما بين الماضي والحاضر، التاريخ المكتوب والتاريخ الشفاهي، منح الرواية متعة القراءة، ووضعها في خانة متميزة من بين أعمال جميلة عمايرة التي صدر لها من قبل في القصة: صرخة البياض.. سيدة الخريف.. الدرجات.. دم بارد.. امرأة اللوحة.. حرب لم تقع.. أما في الرواية فقد صدر لها بالأبيض والأسود، لتكون رواية اسمي سليماني هي الرواية الثانية للكاتبة، وبين الرواية الأولى والثانية مسافة طويلة أجابت فيه عن سؤالنا بالقول: بين العملين مياه كثيرة جرت تحت الجسر، بمعنى أنا قارئة بالدرجة الأولى.