تداول الأسطورة تغذية المعنى

ثقافة 2021/05/10
...

  ناجح المعموري
كتابة الرواية امتداد للمحكيات البكرية التي ابتكرتها الجماعات وجعلتها وسيلتها الجوهرية التي دونت عبرها حياتها وتفاصيل مجالاتها المركزية وصراعاتها مع المجاور لها او البعيد عنها، حتى استدعت كل ما مخزون في ذاكرتها وجعلت منه خزانا حافظا، آمنا لكل ما عاشت وعرفت من معارك صاغت بطولات جمعية او فردية، انفرد منها فرد واحد واختارته بطلا او ملكاً، والانموذج بذلك سردية جلجامش، وعموماً، انفردت الجماعات اللاهوتية لاعداد كل تفاصيل الحياة اليومية للافراد والجماعات ومن بين ذلك التفصيل المهم جداً. 
 
وهو الدين او نجحت بالتعبير عنه بالاساطير، حتى مازلنا نذهب اليها للتعرف على ثقافة جماعة ما، او شعب من الجماعات.
مثل هذه السرديات/ الروايات بمصطلحها الجديد الذي نزع صفة الروي/الراوي، وقدم بديلا له الاسطورة التي هي حقيقة ما كان يجري وحصل تمثيله بدقة. لكن لا بد من التذكير بأن لاهوت الدين، تنوعت مغامرات عقله الاول وهي بدئياته التي شغلت جغرافيا واسعة جداً، من هنا منحتني الاسطورة ما لم يستطع الحصول عليه شخص/ مثقف اخر. واعني بذلك عندما اقرأ، العب بالمهارة التي تقودني الى الاسطورة، الغرائبيات، لانني اعيش تلك المهارة وكل ما يتوفر لي من طاقات عندما استمر بفحص النص السردي الذي يظل حاضراً وانا اقرأ، لان الاسطورة تدب معي وتتعرى لي، ليست هي، بل انا اقودها بهدوء وبطء واقشرها تدريجياً. 
التقشير مصطلحي الذي اطلقته، مستعيناً بالاسطورة وما يتمثل بوضوح في كتابي "انانا جلجامش وشجرة الخالوب/ تقشير النص/ وتحمس له الناقد فاضل ثامر وايضا تحمس ضده د.نائل حنون خبير الكتاب وتحمس له، لكني طبقت هذا المصطلح اثناء السرد، معتمداً عليه، ليس لان الرواية أو القصة متكتمة كالاسطورة، بل لانهما يستجيبان للقراءة والفحص والتأويل، بمعنى يتكشفان تدريجياً، ويمنحان لي ما اريده من النص، حتى انتهي منه، لكني لا بد من الاعتراف باهمية ما قاله ابن عربي بشأن ضرورية التأويل وما يتوفر عليه من امكانات تأويلية لانه لا يكف عن ذلك، لحظة كشوفه التأويلية، لان النص يعطي، ويقف القارئ على عتبة جديدة، يجب ان تقوده حول تأويل جديد. 
لان القارئ المهم لا يتوقف عن القراءة او الفحص والتفسير، بل يذهب باهمية مرة اخرى نحو الحفر والتنقيب. 
لكني لا بد من القول باهمية التفريق بين النص السردي او الشعري والاسطوري الذي يتخندق حول شبكة رمزيات ومجازيات غير قابلة بالتعطيل او التوقف، هذا بالاضافة التي تقود بوضوح الى ان السرد لا يغادر دينويته أبدا، بينما الاسطورة راضية، وقانعة بمقدسها الذي أخذها الى الدين ويمنحها كل ما يملك لان الاسطورة هي الحكاية الواصفة لتفاصيل المقدس. 
الاسطورة هي محكيات المقدس وخطابها الوحيد. والاسطورة ليست بعيدة عن الاجناس الادبية كلها، بل هي قريبة منها ومنحتها آليات التوظيف الجديد والابتكار كي تحوز أهم عناصر الميثي وتعيد انتاجه، لذا تعرف جميعنا كم المسرحيات التي كتبت عن اسطورة أوديب ومن هي الاكثر تميزاً واضافة لافتا للانتباه والتمجيد.
وبالامكان القول بأن تحولات الاسطورة في الاجناس تمنحها حياة وحيوية وطاقة خالدة تغذي الذاكرة الانسانية وتضفي عليها ارادة للذاكرة. لكن من الضروري ان اقول بأن الاساطير العظيمة التي يتم تداولها بوصفها روحاً خالدة لا تقف او تسببت، بل تؤكد سيرورتها غير البعيدة عن الاصل. 
كما ان قبول التشارك بين الاسطورة والاجناس مجال جوهري ومركزي ولا بد من معرفة حيوية الاجناس الراضية دخول اللعب مع الاسطورة واعادة ابتكارها من جديد، وكنت قد كتبت محاضرة قصيرة بعنوان "الاسطوري المحبوس" وقدمتها في ملتقى للقصة زمن النظام المقبور، ورمزت بالمحبوس للوطني المعارضي وانتبه د.سلمان الواسطي لذلك وعقب على ما قدمت واشار الى ان هذه الثيمة التي تحدثنا عنها المتحدث معروفة في كتاب للعالم يونغ والكتاب غير مترجم والمعموري لا يجيد القراءة بالانكليزي، وأردف د.سلمان الواسطي قائلاً: اتضح لنا بأن خطاب الاسطوري يعني نظاماً سيميائياً وهو لا يختلف عن خطاب الادب. 
والتماثل واضح بين هذين الخطابين/ النظامين، وذلك لانهما نتاج للغة وان كان بدرجة ثانية "فوق نظام اللغة الطبيعية". لكن لا نتمكن من تجريدها من نظام التواصل، على كل الصعوبات الحافة بالاسطورة وما يميزها عن الادب ما جعل الاسطورة نصاً بدئياً، البطل والمقدس هما متشاركان بوحداتها السردية، واذا فقدت الاسطورة مقدسها، غادرت صفتها الميثية، وتنحرف نحو الحكاية الخرافية.
المقدس اسم منطوق، وهذا امر حتمي؛ لان النطق من خصائص المقدس وهو حقيقته الاولى في العتبة البدئية، وهذه واحدة من حيازات السرد للتعريف بالعناصر البنائية فقط بمعزل عن صفته المقدسة. وتظل القداسة حجر الحضور الجوهري في الاسطورة، وما يقابلها في السرد هو الدنيوي فقط. قال د.محمد عجينة: يكون ابسط وجود هي العلاقة البنيوية بين الادبي والاسطوري في تجاورهما اي اشتراكها في فضاء/ زمان واحد هو تضمين ومعناه تضمن او رواية اسطورة وما او رمزاً اسطورياً من شخصية او فعل او وحدة اسطورية "اي ميثا" على نحو واضح او خفي. واذا نظرنا الى خطاب الاسطورة او خطاب الادب من منظور بين اثنين، احدهما آني والاخر زماني، وجدنا ان الاساطير يمكن ان تتشظى مفرداتهما، من مفردات لغوية ومن اسماء او ميثيات في شكل فسيفساء تتجمهر في الفاظ اللغة وتراكيبها امثال قوالب جاهزة. يتضمنها الادب ويتمثلها مادة اولى ينبني عليها نظامه، وقد تجاوز العلاقة مجرد بضمن الادب وتمثله مفردات اسطورية الى علاقة من نوع اخر، علاقة بنيوية توليدية وهذا بالذات ما يحدث في الاسطورة الادبية.
والحديث عن زمانية الاسطورة قليل التداول وحضوره نادر في الدراسات البحثية والنقدية؛ لهذا فالمصطلح حديث اخترق الدراسات البحثية والميثولوجية التي انجزها الاخر وتعامل مع الاسطورة باعتبارها ذات زمان ومكان مطلق، وألمح ليفي شتراوس لذلك في بدايات اشتغاله، لكن الدرس الجديد والمناهج الحديثة، استطاعت وتحديداً ما قدمه رولان بارت في كتابه المهم "الاسطورة اليوم" وبعض الاشارات الجوهرية التي سجلها شتراوس. تبدّى ملاحظات بارت واضحة عن تحديدات الاسطورة بالزمن غير الطويل مثلما اشار لذلك حمادي المسعودي في كتابه "متخيل النصوص المقدسة في التراث العربي الاسلامي"، وقال بأن الزمن محدد وقصير، ومثلما اشار الطبري الى ازمنة قصيرة في الخلق، اما الزمان فهو التاريخ الطويل والسرديات الكبرى. اما ليفي شتراوس فألمح بأن "الاسطورة تشير الى وقائع حدثت منذ زمن بعيد وما يغطي الاسطورة قيمتها العلمية هو ان النمط الذي يضعه غير ذي زمن محدد. انها الماضي والحاضر والمستقبل وتتضمن الاسطورة على زمن قابل الاعادة، كذلك الزمن غير قابل للاعادة ولغتها لها خصائص التزامن والتتابع التي اكدها دي سوسير/ كلود ليفي شتراوس.
اما العالم يونغ فقد قسم الابداع الى نوعين: الاول سايكولوجي وهو الذي يعالج مواد مستمدة من مجال الشعور الانساني مثل دروس الحياة والصدمات العاطفية وتجارب الحب، اما الثاني: فيسميه الابداع الكشفي والتجربة فيه ازلية تفوق قدرة البشر على الفهم/ عبد الفتاح محمد احمد/ النهج الاسطوري في تفسير الشعر الجاهلي.