أنشودةُ المطر

ثقافة 2021/05/12
...

  محمد صابر عبيد
لا أحد يمكن أن يخطئ هذا العنوان الشعري لقصيدة الشاعر الرائد بدر شاكر السيّاب "أنشودة المطر"، إذ هي علامة مهمة وبارزة وأساسيّة في تجربة الحداثة الشعرية العربيّة المعروفة بـ "قصيدة التفعيلة"، وصدرت المجموعة الشعرية التي ضمت هذه القصيدة صحبة قصائد أخرى بالعنوان نفسه تثميناً لعظمة هذه القصيدة الاستثنائيّة، فهي معلقة شعرية في لغة الوصف النقدي العربيّ القديم للقصائد النوعيّة المنتخبة في ما سمي قديماً "المعلقات"،
 
 وحين نعود إلى مرجعيّات صدور هذه المجموعة سنجد أنّ من نشرها واختار قصائدها هو "أدونيس" داخل فضاء مجلّة "شعر"، بعد أن اقترحت المجلةُ منحَ السيّاب جائزة المجلّة وتبنّت طبع الديوان بموافقة السيّاب وترحيبه بهذه المبادرة المهمّة.
أرسل السيّاب إلى أدونيس ما بحوزته من قصائد كان كتبها كي ينتخب منها ما يراه مناسباً لإصدار المجموعة، فاستخدم أدونيس ذائقته الخاصّة لاختيار ما كان يعتقده أنّه يمثّل تجربة السياب ويتلاءم مع فضاء مجلّة "شعر"، مستبعداً كثيراً من القصائد التقليديّة التي لا تندرج في هذا السياق بحسب رؤية أدونيس، وإذ سأله السيّاب: ماذا نفعل بها هذه القصائد المستبعَدَة؟ أجابه أدونيس: اتركها بوصفها جزءاً من تمارينك الشعريّة التي استطعت بها في ما بعد أن تبدع "أنشودة المطر"، وفي حوار لاحق لأدونيس حول هذه القضية واشتباكاتها قال: لو قرّرتُ اليوم نشر هذه المجموعة من جديد لاستبعدتُ منها قصائد أخرى كي ترتفع المجموعة درجة أعلى في سلّم الشعريّة.
تبدو هنا أكثر من عبرة وأكثر من درس فنيّ وأخلاقيّ في تصرّف مجلة شعر وتصرّف أدونيس، فمجلّة شعر تعلن عن جائزتها وتمنحها للشاعر بدر شاكر السيّاب في دورتها الأولى، ويقترح أدونيس إصدار مجموعة شعريّة للسيّاب عن مجلّة شعر احتفاءً بشعريّة مميّزة في الشعريّة العربيّة الجديدة، ويتكفّل أدونيس باختيار النماذج لإظهار السيّاب بالوجه الشعريّ المناسب الذي يجب أن يظهر به، وهكذا يتصرّف الكبار مع بعضهم في إيمان كبير وعميق وشديد بثقل الموهبة واحترامها وتقديرها حقّ قدرها، فلم يكن السيّاب شاعرا عابرا في تاريخ الشعريّة العربيّة بل من الشعراء الذين يضيفون للتاريخ كما يقول أدونيس، وهو يشير في الوقت نفسه إلى قصائد عاديّة كتبها السياب استجابة لظروف خاصّة لا تمثّل جوهر موهبته الشعريّة الفائقة في قصيدة "أنشودة المطر".
تعدّ قصيدة "أنشودة المطر" أيقونة مركزيّة من أيقونات "قصيدة التفعيلة" لا يمكن لأيّة قراءة أو مقاربة أو معالجة نقديّة أن تأتي عليها تماماً، ففي كلّ قراءة جديدة للقصيدة يحصل القارئ على متعة جديدة وفضاء جديد، وتتكشّف إمكانات جديدة لم تكن تخطر على بال القارئ من قبل، وهذا دليل أكيد على عظمة هذه القصيدة التي إذا ما قارنتَها بقصائد عاديّة للسيّاب تستغرب حتماً كيف أنّ شاعراً واحداً كتب هاتين القصيدتين، لكنّ في الحقيقة لا عجب أبداً فأعظم شاعر في العالم إذا ما احتفظ بشعره كلّه سنجد قصائد كثيرة لا تستحق أن تندرج داخل أفق الشعر، وهي ليست أكثر من تمرينات مستمرّة للوصول إلى عتبة القصيدة الحقيقيّة التي يبحث عنها، ويجب أن يكون على درجة عالية من الوعي بحيث لا يُدرجها ضمن تجربته الشعريّة المعتمدَة في ديوانه النهائيّ.
ولا غضاضة في أن يقوم الشاعر في ما بعد بحذف كثير من قصائده في طبعات لاحقة تعكس طاقة الوعي بالتجربة على نحو خصب، ولا قيمة لشعر بسيط سبق للشاعر أن كتبه في مرحلة معيّنة ونشره لسبب معيّن ويمكن أن يحذفه في ما بعد لسبب أهمّ وأكثر جدوى، لا قيمة أبداً لما يسمّى عند بعضهم الحفاظ على إرث الشاعر في كلّ ما كتبَ مهما كان تافهاً، فلو تسنّى للمتنبي الآن أن يراجع شعره بوعي فنيّ لتخلّص من نصف شعره، وهذا ينطبق على كلّ شعراء العالم بلا استثناء، إذ العبرة في ما نقدّمه من شعر عالي المستوى يسهم في رقيّ الإنسان وتثمير ذوقه السليم وإضافة الجديد له – تاريخاً وإبداعاً-، وما عداه ليس سوى جفاء يذهب مع الريح؛ ولا يمكث في الأرض إلا الإبداع الحقّ الذي ينفع الناس، ولا بدّ من أقصى حالات الانتباه عند أيّ شاعر كي لا يكرّر نفسه ويعيد إنتاجها على نحوٍ رديء، يسيء حتى إلى نماذجه الجيّدة التي تمثّله حقاً فيضيّع المَشيَتَين كما يقول المثل الشعبيّ.
إنّ تصرّف أدونيس مع السيّاب يدلّ على عمق نظرته المبكّرة القائدة في مسيرة الشعريّة العربيّة الحديثة، والدور الاستثنائيّ الذي نهضت به مجلّة شعر وقد تعرّضت لهجمات الجميع على نحو أنتج مفارقة عجيبة، رفضها اليمين العربيّ مثلما رفضها اليسار العربيّ، وحاربها الليبراليون والرجعيون، المتديّنون والعلمانيون، الشعراء والسياسيون، الكلّ بلا استثناء، في معادلة غامضة غير مفهومة تحتاج الآن -وقد زالت الغشاوة عن عيون الكثيرين- إلى إعادة قراءة وتقويم ودراسة منصِفة، بوصفها الظاهرة الأبرز في تاريخ الشعريّة العربيّة الحديثة على الإطلاق وعلى المستويات كافّة.
ظلّ أدونيس وهو في عامه التسعين مُشعّاً ومبتكِراً؛ أكثر –كتابةً وريادةً ورؤيةً وتطوّراً وحداثةً، وظلّتْ قصيدة "أنشودة المطر" بعد كلّ هذه السنين تشعّ دلالةً وعلامةً وقيمةً وإبداعاً بلا توقّف، واندحر مصارعو طواحين الهواء باختلاف عناوينهم وانتهوا إلى لا شيء بلا أثرٍ ولا قيمةٍ ولا حتّى ظلّ.