أضلاع اللعبة التدوينيَّة في (نزيلات هاديس)

ثقافة 2021/05/17
...

 علي لفتة سعيد
 
تلعب الشاعرة ابتهال بليبل لعبتها التدوينية في مجموعتها (نزيلات هاديس) بطريقة من تريد التأكيد على أن ما تبوح به هو ليس جرأة في الحرف فحسب، بل مقاومة في الجملة الشعرية النثرية التي تحملها نصوص هذه المجموعة التي بدأت بالتركيز على بثّ مقدّمتين في محاولة أخرى، وإن كانت بهاتين المقدمتين قد كشفت مبكّرًا عن القصد الذي تحمله النصوص، لكنها أرادتها (مقاومة اجتماعية ومواجهة تعبيرية) تحمل بين طياتها الجرأة التي يتطلبها النصّ لا بوصفه رسما لملامح (كلامية) فقط بل بقدر ما يحمله من جنون التعبير، وهو الاختلاف مع الآخر والعبور فوق مسطحات وأنهر، بل وحتى محيط المجتمع من جهةٍ وبحر التأويل من جهةٍ أخرى.في (نزيلات هاديس) الصادرة عن منشورات أحمد المالكي تكشف الشاعرة أحد أضلاع لعبتها من خلال العنوان، إذ ركزت على أن المحتوى والمرسل منه والمرسل اليه هنّ (نساء) والمدون -المدونة– امرأة/ شاعرة.. و(هاديس) تلك العلاقة بين المجتمع والمرأة والأعراف من جهة وبين الحرية والأنثى من جهة أخرى.. لكن الأمر لم يأت ابتذالًا لمجرّد حصول الكوامن النفسية المعلّقة بالأنوثة والجنس، بل من خلال استغلال كل ما ذكر ليكون نصًا مواجهًا ومقاومًا، لأن هناك إعلانا مهما: إن النساء هنّ نزيلات في سجن اجتماعي يفرض سيطرته الرجولة، وهذه المنطقة المتصارعة كما يبدو منذ حواء وما فعله قابيل في قتل أخيه هابيل والمرأة تعاني من ثقل لسانها الاحتجاجي وإباحة جسدها الذي هو محور كل العلاقات الاجتماعية والسياسية والفقهية التي رتّبت على أن العلاقة الجنسية هي المحمول الدلالي لوجود المرأة ككيان مكمّل لاستمرارية الحياة.
 
العنوان ولعبة الأضلاع
إن العنوان يلعب لعبته أولا في عملية الجذب لإثارة السؤال في معنى (هاديس) وهل هو مجرد موقف اعتراضي قبل الاحالة الى التحقيق؟، هل هو سجن لتتحول المرأة الى نزيل؟، ولماذا هاديس؟، ربما هناك أسئلة أخرى فضلّا عما يمكن أن يمنحه (هاديس) من كونه الإله المخفي او إله الموتى، وهو الإله الذي خطف ابنة إلهٍ ثانٍ ليأخذها معه الى العالم السفلي، وهو الأمر الذي تعنيه بليبل في هذه التسمية المتعلقة باختفاء واختطاف المرأة وحصره في عالم سفلي/ الأنوثة.. فتأتي اللعبة التدوينية في العنوان كواحدٍ من الأضلاع من خلال ربط المبتدأ (نزيلات) مع (هاديس) التي وضحتها في نصّ يحمل العنوان ذاته رغم أن الأفضلية في الزمن الراهن هو ألّا يكون العنوان نصّا ضمن النصوص بل يكون جامعًا لكل النصوص.. ولكن في هذا النص الذي يمثل كيان اللعبة التدوينية وحاصل جمع الأضلاع لتكوين الشكل الهندسي الأخير، والتي أخذت الشاعرة ممارسة الدوران حول العنوان، والذي يفتح المدينة لنصوص كلها، لتأتي بعهدها العنوانات الأخرى التي يمتزج فيها الجمع الكلّي والنص الفرداني، فهي تستعمل عنوانات تريدها نصوصًا فكانت (ضفة الذبول) قد تشظّت الى خمس عشرة مرّة، وهي تسرّب القليل من القصديات التي تريدها للتعبير عن الغاية التي تركّزت عليها النصوص كأفكار، والمتعلقة بالمرأة سواء أكانت سجينة حقيقة أم سجينة حياة.. ولهذا فإن كلّ ضفة كانت مكتوبةً بلغةٍ سردية، ما يشبه التوضيح المسبق، ليس كمقدّمةٍ إعلانيةـ بل كتسويغ اجتماعي، ثم يأتي بعده النصّ الذي يحمل عنوانا يدور في فلك التأويل العنوان الرئيس مثلما يدور في الإشهارين في مقدمة الكتاب.
 
البعد السردي – البعد الشعري
إن بنية الكتابة في هذه النصوص قد تكون متشابهةً من الناحية التدوينية، وهو أمرٌ طبيعي جدا، لأن بليبل لها ميزتها وتميّزها في البنية الكتابية وإدارة اللعبة، فضلا عن كونها تحمل الدلالات الفنية لإشهار المدلول التأويلي، فضلا عن أنها في أشطر النص إذا ما استثنينا (ضفات) الذبول الكلية، كانت تلاحق الفكرة المركزية، فتضخّ بين الكلمات ما هو مراد تسويقه للمتلقّي، ليكون على علم بالرسالة أو على الأقل قريب من الرسالة الأصلية التي لا تريدها أن تكون مجرّد عالم إيروتيكي وعالم مثخن بالجنس أو الأنوثة أو الاحتجاج، بقدر ما تريدها أي الرسالة تحمل شعريتها. 
ولهذا نرى النصوص تمتلك البعد السردي مثلما تمتلك الروح الشعرية.. وهي هنا من أصول وحيثيات قصيدة النثر التي لا تعتمد على المقطع الواحد، بل على البناء الكلّي للنص.. وهي لا تخفي صوتها عن الفكرة واللعبة معا.. والشاعرة حاضرة من خلال بنائية النصوص في أغلبها بنيت بطريقة المتكلّم، وقد بدت بردّة الفعل على فعل المجتمع ليتحوّل فعلا.. لهذا فإن اللعبة تبدأ بربط أضلاع الواقع بالشعر والماضي بالفكرة والاسطورة كثريّا بالقصد، من أن المرأة منذ أن خلقت هي ذاتها المرأة، وإن كانت في مراحل معيّنة تمتلك الحضور الفعلي، كأن تكون هي الآلهة أو الرئيسة لكن هذه ليست القاعدة العامة.
 
بناء المستويات
المجموعة تبدأ بالمستوى الإخباري الذي يتسيّد باقي المستويات التي تتواجد في أغلب النصوص، ومنها المستوى التصويري الذي يزيّن المعنى في الداخل، والمستوى التحليلي الذي يعطي حيثيات الواقع، والمستوى القصدي الذي يصارع عملية شحن المفردة بالشاعرية المقصودة، والمستوى التأويلي الذي هو حاصل جمع المستويات الأخرى في ما يبقى المستوى الفلسفي مرهون بعملية التلقّي وملاحقة المهمة الشعرية. إن اللعبة التدوينية كبنية كتابية في هذه المجموعة تحتمل الإطالة لأن الفكرة تحتاج الى مزيد من الترتيب، لكنها لا تأتي كإطالة فضفاضةـ بل شارحة ومحلّلة لحيثيات الفكرة التي تنطلق في النصوص بدءا من هاديس الأسطورة.
(سَمعتَهن يَصرُخن.. يَصرُخن.. بحناجر خاوية تنكأ الحروف/ المالحة أوتارها المرتعشة: هاديس.. هاديس../ ينزلن.. مثل صهارة.. في باطن الأرض ثمّ يصعدن../ ينزلن.. يصعدن). إن هذا الاستهلال من نصّها الأول الذي حمل اسم المجموعة، تبدو العلاقة بين المتكلّم والمخاطب، وهي علاقة تبدو عليا، تبدأ من الأعلى حيث الغاية، ثم تبدأ بتقشير المحمول الدلالي للنزول إلى المنطقة السفلية من الرسالة القصدية، وكأنها أيضاً تبدأ من الفضاء الدلالي نزولًا إلى العالم السفلي لقصدي، إذ ترتبط دلالة العنوان الرئيس بالمحتوى الكلي.. وأمام هذا المحتوى تقف البنية الكتابية وكأنها تريد إزاحة الركام الذي دثّر الفكرة القابعة في الحالة الجوانية النفسيةـ وهو ما يعني حاجة النص إلى عملية إزاحة بطيئة هادئة، ولهذا نرى أن هناك استخدامًا لصيغٍ مختلفة، تتنقل بين المتكلّم والمخاطب والغائب في النص الواحد، وإلى استعمال الفراغات أو للتقطيع بين انتقالةٍ وأخرى.
 
اللغة واستقامة الأضلاع
 ومن ثم كانت هناك لغة رائقة توازي الأهمية الشعرية في ممازجة السرد، لكنه سردٌ شعري، ولغةٌ تحاول صيد الشاعرية والبوح بتلك الفعاليات التدوينية لتكون قادرةً على جذب المتلقّي، وتقريب ما يراد له من كشف أسرار ليس الكتابة او الجرأة بل لغاية العليا لماهية المواجهة أو المقاومة.. فاللغة هنا عتبة مميزة، قدرة على استلهام الملامح التأويلية بكمية كبيرة لتكوين ملامح الصورة التي تقرب المعنى من الدلالة.
إن اللغة هنا حصانٌ يركض في جميع الاتجاهات، بهدف خلق فاعلية تضامنية تهدف إلى تثوير الفعل الشعري من جهة، مثلما تهدف إلى خلق مناخٍ جاذبٍ يخلق القبول في تفسير اللغة ضمن اتجاهات الجملة الشعرية (أفهمُ أن تُغلق الأبواب../ أن توصد حتى أمام زفير مشروخ ساخن/ أن تُثبّت الحيطان على فراغٍ لا يمكن تشريحه أو تهديمه/ إذ تبدو أيّة قناعة في الدخول منها اعترافاً بأن لا شيء يحمي حواسك من هندستها بشكل مشوّه./ لكن ماذا تعمل الأربطة، خلفها، في أصابع أقدام النساء؟/ أنوثة بلا معنى)، واللغة هنا ليست مفردات راكضة، بل هي جملٌ يحملها الحصان الراكض للوصول إلى ما تبتغيه الشاعرة. 
إن هذه النصوص مجموعة عوامل متناخية بين العنوان العام والغاية التي تريد إمساكها، كي لا تقع في محظور التفسير الاجتماعي، وبين اللعبة الشعرية لتطرح النصوص على أنها الكاريزما النهائية، وهي نصوص شعرية تمكّنت من إخضاعها إلى عملية تجميل من خلال صنعة المشهد الشعري الممهور بلعبة سيميائية لها ميزة التلقّي
العام.