تجليات سيرة محمود درويش في إطار الشعر

ثقافة 2021/05/19
...

  أربيل: كولر غالب الداوودي
 
إن كاتب السيرة الذاتية عندما يشرع بكتابة سيرته، لا يملك إلا أن يعبر عن صوته وصوت راويه إذ يتخذ إزاء- ما يروي – مكاناً مزدوج الحضور، فهو الذي يرتب الأحداث متناً ومبنى، وهو الذي يصنع الحدث بوصفه كائناً يعيش داخل المتن المروري. بهذه الكلمات النقدية افتتح الناقد الدكتور خليل شكري هياس ورقته النقدية الذي تحدث على نحو مقتضب لضيق الوقت المسموح به لتقديم بحثه، متسائلاً: أين تكمن وجهة نظر صاحب السيرة وراويها وهو يقص عن نفسه؟ 
إن وجهة نظره تكمن في خارج عمله أولاً، وداخله ثانياً، فهو كائن سيري ذو وجودين، خارجي وداخلي، ولا يمكن تخيل عمل سيرذاتي دون افتراض هذه العلاقة. ثم تحول إلى الجانب التحليلي للنص قائلاً: تلخيص قصيدة (أرى شبحي قادماً من بعيد) رؤية محمود درويش للنص السيرذاتي الشعري، عندما يخلق عبر مفردة (أطل) مساحة فاصلة بين ذات درويش الحي- الشاعر-  وذات درويش الطفل، كاشفاً بذلك عن رؤية مرآويه تستبطن الذات لتستحضر تفاصيل حياته في ديوان خصصه لهذا الغرض وهو (لماذا تركت الحصان وحيداً).
ولعل أولى المسائل اللافتة للنظر في هذا النص، عتبة العنوان التي تنهض على ستراتيجية واضحة تختزل- مع نصها- تجربة الديوان بأجمعه، كما أنها تحمل في طياتها ملامح النوع السيرذاتي من خلال عدة امور:
1 - الحضور الواضح للذات في عتبة العنوان:  
2 - قيامها على منظور استرجاعي
3 - طبيعة الرؤية التي تفصح عنها مفردة (أرى) تتجاوز دلالتها البصرية إلى دلالة ذاكراتية ينهض النص في تشكيل أسلوبيته، على مفردة (أطل) المزودة بقدرة تصويرية عالية تعمل تشكيل مجموعة من الدوائر، كل دائرة تختص بجانب من الجوانب المتعلقة بحياة الشخصية المسرودة في النص:
(أطل كشرفة بيت على ما أريد)
بهذه الجملة التي تتكرر في ثنايا القصيدة أربع مرات تفتتح الذات الشاعرة نصها، أما الفعل (أطلُ) فيتكرر ثلاثاً وعشرين مرة، كاشفاً بذلك عن منظور سيرذاتي في السرد، يقوم على الفعل أطلّ الحاوي لمعنى الرؤية والمعبر-أيضاً- عن وجهة نظر شمولية لأن المعنى الذي تحمله المفردة (أطلُ) يقتضي نظراً من الأعلى إلى الأسفل، وهو ما يعرف بؤية عين الطائر.
ثم توغل الناقد أكثر في الكشف عن دلالات النص ليشير إلى أن القصيدة تنطوي على دلالتين مركزيتين كبيرتين تتمثلان في الذات والمحيط- الآخر- يظهر المحور الأول في ذات الشاعر والذوات المنتمية لها (الأم، الأصدقاء) أما المحيط فيمكن توزيعه في دوائر عدة: الآخر ممثلاً بـ (الجنود، الجار المهاجر من كندا) ودائرة الطبيعة بطيورها (النورس، الهدهد) وحيواناتها (الكلب، الحصان) واشجارها (غير المسماة المشبهة بالزيتونة) ودائرة ما وراء الطبيعة (حياة ما بعد الممات) ثم تبرز دوائر لها صلة بالفن (الروايات، الأسطوانات، النشيد) وبالتاريخ وصراعاته (الفرس، الروم، السومريون، اللاجئون الجدد) وبالأبعاد القومية (اللغة ولسان العرب) وبالشخصيات الفاعلة (المتنبي، زكريا، طاغور، أسخيليوس، أنطونيو).