رمزيَّة المخطوطة في سابع أيام الخلق

ثقافة 2021/05/23
...

  أحمد الشطري
 
شكلت موضوعة (المخطوطات التاريخية الافتراضية) ثيمة رئيسة في العديد من الروايات العالمية والعربية، وهي في الأعم اما ان تكون منطلقا لأحداث الرواية او تكون مركزا او قطبا تدور حوله الاحداث؛ ليشكل الدافع الاساسي لصراعات شخصيات الرواية، وتختلف قيمة واهمية ذلك القطب (المخطوطة) تبعا لما يحمله من رمزية وما ينطوي عليه من أثر او ما ينضوي تحته من أحداث، وسواء كانت هذه المخطوطة مستمدة من أصل واقعي أو انها افتراضية برمتها، فإنها غالبا ما تختزن بعض المضمرات من دلالاتها الرمزية، والتي لا تتكشف من خلال المجرى الحدثي، بل يسعى الروائي الى الاحتفاظ بها خارج مسار الأحداث الدرامية؛ لتكوّن بعد ذلك بعدا آخر مفضيا الى فضاء واسع من التأويلات والاجتراحات القرائية لكلّية النص.
إنّ رواج فكرة المخطوطة في الاعمال الروائية لكثير من الرواة في الفترة الماضية والحالية لا يمثل اجترارا لتلك الفكرة - كما أرى- وإنْ بدا في ظاهره كذلك. بل انها أصبحت تمثل (شيفرة) متعددة الدلالات بين المرسل والمخاطب، فإن كل روائي جعل من هذه (الفكرة) نبعا تتدفق منه مياه رؤيته الخاصة التي يسيرها وفق المسار الذي يراه، والاحداث المرتبطة به، والتي تشكل مبررا للبحث في مضامينها، ومحفزا إغرائيا لتلقي ما ينضوي تحتها من خطاب فكري وجمالي، مع الأخذ في الاعتبار إن النص الروائي يمتلك قابلية واسعة على التنوع في الطرح والتصوير وبناء الحدث الدرامي وما يختزنه النص من دلالات رمزية.  
ووفقا لما أشرنا اليه سنحاول أن ننظر في جزئية المخطوطة وما يمكن ان تحمله من دلالات رمزية متكشفة او مضمرة في رواية(سابع أيام الخلق) للروائي عبد الخالق الركابي. إذ تشكل مخطوطة(الراووق) في رواياته الثلاث (الراووق 1986) و(قبل ان يحلق الباشق 1990) و(سابع ايام الخلق 1994)، محورا للصراع، ومحركا أساسيا لمسار الاحداث في تلك الروايات، وهذا ما نراه في رواية (سابع ايام الخلق) من خلال صراع الاطراف المتناقضة للوصول الى تلك المخطوطة ومعرفة ما تنطوي عليه من اسرار ومحاولة إخراجها من عتمة السرية الى اضواء الكشف، وهذا ما تمثل بمسعى الراوي، وبالمقابل كان هناك مسعى آخر يهدف الى تشويه تلك المخطوطة من خلال اضافة أحداث او تغييرها لصالح شخوص او قوى أخرى، ورغم أن تلك النصوص قد طُعّمت بما اجترحته مخيلة الرواة إلا أنها بقيت تحتفظ بأهميتها التاريخية كما يشير الى ذلك في هذا المقطع:"انها نصوص تنطوي بدورها على عشرات النصوص الاخرى التي نسيت اسماء مؤلفيها أو أُهملت؛ فالنصوص الشفهية الثلاثة ما هي في واقع الحال الا خلاصة جهود عشرات الرواة المجهولين الذين طعّموها بشذرات من أخيلتهم. كما أن النصوص الكتابية تتضمن بدورها جهود عشرات القيّمين على المزار".
وقد أشار الاستاذ طراد الكبيسي في دراسته للرواية - والمرفقة مع نسخة الطبعة الرابعة التي بين يدي- الى دلالات رمزية لمخطوط الراووق تمثلت في: "ضياع ماض اختلفت الآراء حوله، أو للانتهاك الذي يمارسه الرواة في النص الشفاهي".
ومن هنا يمكن أن نستدل على أن الركابي أراد ان يشير الى إنّ ما جرى على مخطوط الراووق من اضافات وتشويه لا يختلف عما شهدته الكثير من المدونات لتاريخنا؛ أو لعموم التاريخ بكل مجرياته، وما حُمّل من أحداث وآراء تتناسب مع رؤية كل مدوّن أو كل صاحب سلطة.
بل ان رمزية الراووق تنسحب على كل مدوَّن ذي تأثير على حياة المجتمعات السياسية والدينية والاجتماعية، فمثل تلك المدوّنات دائما ما تكون عرضة للتشويه والتحريف والاضافات، باعتبارها عاملا رئيسا في تقوية سلطة الموجه المهيمن بكل تفرعاتها واشكالها.
فالتاريخ وما يحمله من مدونات موروثة يبقى فاعلا ومؤثرا في حياة المجتمعات والافراد سلبا وإيجابا، وغالبا ما تكون المجتمعات منقادة الى تلك الموروثات التاريخية باستسلام تام، معتبرة اياها ثوابت حقيقية مقدسة حتى لو كان أغلبها يتناقض مع العقل والمنطق، وهذا ما يمكن أن نجده في المدونات الدينية على الأخص او ما يتعلق بالسير الذاتية للرموز المغلفين بالتقديس. 
إن المؤشر الخطابي لرمزية الراووق يرشد الى تبني الاتجاه الرأسي في تحليل خطاب المرويات، وتهشيم قشرته، وتحليل محمولاته وفق المعطيات المنطقية، بعيدا عن التلقي التقديسي أو التعصبي لخطاب ذلك المروي. 
إن عملية تهشيم قشرة الموروث وتحليل منطقية محتوياته الفكرية أو السيرية مهمة صعبة بلا شك ومحفوفة بالمخاطر؛ كون ذلك الموروث قد ترسخ في اذهان الناس كحقائق لا تقبل النقاش حتى لو كانت محرفة أو غير منطقية، كما يشير الى ذلك في هذا المقطع"وقد بلغ ذلك التحريف والتزييف حدا من الشيوع بات من العسير فضحه؛ ذلك لأنه تحول بمرور الزمن الى حقائق راسخة" ص46من الرواية.
كما يمكن أن نشير الى أن الصراع المحتدم بين الاطراف الباحثة عن المخطوطة- بغض النظر عن النوايا التي تقودها- يشكل بعدا رمزيا مضافا، يشير الى الاثر النفسي والاجتماعي للمرويات لدى المجتمع والأفراد على حد سواء؛ لاعتبارات مختلفة تبعا لنوايا كل طرف وغاياته.