رؤيـــات

ثقافة 2021/05/23
...

  رعـد فاضل
* أليس دائماً ثمة أفلاطون مخبّأ في كل شاعر أخلاقيّ، حتى إن حاول ترويضه بإضفاء شيء من غنائيّة الفن الشعري الكلاسيكيّ، كي يظل في دائرة الاستثناء الأفلاطونيّة الصارمة التي ترى الغنائيّة واللحنيّة هما الأصدق تعبيراً عن الحقيقة، ذلك أن الشعراء وفقا لرأي أفلاطونهم ((ألسنة الآلهة، وسفراؤها إلى البشر))، أي اِرشاديون تعليميّون وعظيّون، وما أبعد الشعر الحقيقيّ عن ذلك؟.        
 
* مفهوم الشّبكة لا يقوم على الكليّة، إذ إنّ نصّاً شبكيّاً قد يكون لكلّ خيط فيه لونٌ وطبيعة ومعنى ما يختلف عن سائر الخيوط التي قد تتنوّع هي الأخرى لوناً وطبيعة ومعنى. قراءة مثل هذا النصّ ونقده يتطلّبان إذاً فهم علاقة كلّ خيط مع الخيط الآخر. ثمّ إنّ الشبكة مدارات، وكلّ مدار مربوطٌ بآخر، الشّبكة متاهة غير أنّها بفجوات تسمح لنا بملئها ليتمّ الربط ما بين فجوة وأخرى، ثمّ إنّ الشّبكة ((تنسج علاقات أفقيّة تربط بين المتّصل والمنفصل بهدف ادراك معقوليّة الأشياء)). مفهوم الشّبكة النصيّة إذاً مادام ليس كليّاً فهو: علائقي.
* تقترب قصيدة الهايكو كثيراً من فنّ التّصوير، حتّى لتكادُ تتماهى فيه كلّما اتّسع ابتعادها عن الاستعارة والتّـشبيه، تكاد تكون صورة تماماً، وليست لغة.
* ليس سهلاً أن نقول عن شيء ما: إنّه ممكن، لأنّ ذلك عمقيّاً يعني أنّه كان جزءاً من تاريخ المستحيل. أحياناً يحلو لكلّ متأمّلٍ أن يضفي صفة المستحيل الممكن على الأدب، وعلى كلّ كتابة وطريقة تفكيرٍ خلّاقتين.
* ليس في هزيمة شاعر أو كاتب اِشكاليّ ما انتصار لأيّ قارئ ما، إن كان هنالك من لا يزال يعـدّ قراءة نصّ اشكاليّ هزيمةً لهذا النصّ، ذلك أنّي سأسأل: تُرى أيُّ الذّوات التي يتمتّع بها هذا الشّاعر أو الكاتب قد هزِمت؟. أن أنتصر بوصفي قارئاً يعني أنّي قد توقّـفتُ عن أن تكون منضدةُ رمل التّفكير أمامي، عن وضع الخطط ورسمها، عن تقليب النّظر في الأشياء، يعني أنّي قد توقّـفت عن النّقـد، يعني أنّي لست سوى عالة على ما أقرأ. هذه هي عمقيّاً: الهزيمة هنا. 
* أن تظلّ حاضراً أمام كلّ قراءة ونقد مقبلين، ببساطة يعني مع أنّك بدأت تطعن في السنّ لست قابلاً بعدُ للنسيان. لماذا يشيخ إذاً سِنُّ المنتِج ولا يقبل أن يشيخ منتَجُهُ على الرغم من أنّهما كلاهما مادّة حيّة؟. الجسد مادّة ما إن تتشكّل يُبذَر فسادُها معها، فيما الأفكار كما النار تطهّر نفسَها بنفسها على الدّوام، وتجدّد.
*الهدوء في الحقيقة غضوبٌ جدّاً وقد لا يُحتمل غضبه، لكنّه يدّعي الحِلْم والسّكينة والحصافة. الهدوء أشدّ عنفاً من الغضب ذلك أنّه يتكوّن من طبقات غضبٍ مضغوطٍ مكدّسٌ بعضُها فوق بعض. من هنا هو انفجار مؤجّل كما بركانٍ، بينما الغضب طفوليّ، ساذج، بريء لأنّه آنِيّ حسب.
*الهُويّة بمعناها الشموليّ الواسع إنما هي في حقيقة جوهرها مركزيّة مؤسلِبة أحاديّةُ الرؤية، حوّلت ((الشّيء إلى صورة، والأصلَ إلى نسخة، والواقع إلى تمثيل، والوجود إلى مظهر))، كما يؤكد الفيلسوف الإنثروبولوجيّ فويرباخ، ذلك أنّها تُخضِع ضمنيّاً كلَّ المختلِفات والمتنوّعات والمتفرّدات الهوياتيّة لسياقها الأُحاديّ الكليّ. إنّها توحِّد وفي الوقت نفسه تختزل وتلغي ثقافيّاً وفكريّاً وسياسيّاً وعِرقيّاً. المجتمعات ذات الجذور والسّمات الواحدة متطابقة لأنّها موحَّدة أصولاً وجذوراً، أمّا تلك المختلفة المتنوّعة فتتطلّب فضاء هويّاتيّاً متعدّداً، تتطلّب هويّة شخصيّة مستقلّة قائمة بذاتها لكلّ مختلِف، وإلّا لتحوّلت إلى ثانويّة هامشيّة قياساً بالهويّة الضّامّة- الأُم. 
وعلى هذا أن تكون مجموعة هويّات مختلفة منضمَّة وليست مضمومةً قسراً إلى هويّة جامعة، لابدّ أن يكون هذا الانضمام ديموقراطيّاً حقيقيّاً لا قِشريّاً، يفسح لكلّ (هويّة – جزءٍ) حريّةَ أن تُبرِّز وجودها الشّخصيّ على الدوام لغويّاً واجتماعيّاً وفكريّاً وأدبيّاً. من هنا نفهم لماذا يكون ((التميّز العامّ للشّيء هو الذي يربطه بالكون كلّه، وهو الذي يردّ الاختلافات إلى الاختلاف الجوهريّ)) عند هيجل، كي يكون تعدّد الأطراف هويّاتيّاً منتِجاً ايجابيّاً لا منتِج تنافرات واحتراباتٍ كما يجري في العراق وسوريّة واليمن؛ بين طرفين أو أطراف هويّاتيّة عـدّة، وما على هذه الأطراف سوى أن تعمل وفقاً للبُعد الفوكويّ – نسبة إلى ميشيل فوكو- ((الذي ينقل أحدهما نحو الآخر من حيث هما مختلفان))، لا من حيث هما محترِبان أو محتربون. 
* بدهيّاً ما من مجهول بالنسبة إلى كلّ معلوم إلّا وكان معقّداً أو مركَّباً لأنّه لا يزال غائباً، لأنّه لمّا يزل غير موصَّف بعد، ووصفُه بدهيّاً يتطلّب فكراً مرِناً يتمتّع بقدرة على التّنفّس طويلاً في الأعماق لإضاءته والكشف عنه. هذا التطلّب بدهيّاً أيضاً سيتطلّب أسلوب تعبيرٍ عن هذا الكشف بالمستوى نفسه. المجهول أو الغائب صادر عن مخيّلة أو معرفة مركّبة أي اِشكاليّة، لكنّ د.فارس المدرّس يقول في كتابه العناصر الفلسفيّة المؤسِّسة لوظيفة الأدب ((تتلخّص عناصر الفنّ بالجمال والعمق والبساطة))، ولكنْ الجمال دائماً مخبّأ ولولا هذا الاختباء أو الاحتجاب لتوقّف عن أن يكون جمالاً ولما ظلّ يتطلّب منّا كشفاً متواصلاً، كما أنّ تواصل هذا الكشف رهينٌ بمدى عمق كلّ جمال ننصرف إليه، ومتى ما وقع تحت شمس الانكشاف والوضوح النّهائيينِ يكون قد توقّف عن أن يكون عميقاً، عن أن يكون سرّاً، عن أن يظلّ ثريّاً، أي تحوّل إلى البساطة والفاقة والفقر، فالجمال كما المعرفة إن لم يكن متصيِّراً على الدوام سيفقد عمقه وتواصله أمام القراءات الحيويّة الفعّالة. العمق يتطلّب غوصاً فيما السّهولة والبساطة تتطلّبان عَوْماً. أن تكون الأفكار عميقة يعني أننا لن نعرف أنّها كذلك إلّا إذا عُبِّر عنها بأسلوب يتمتّع بالعمق نفسه.