الثقافة والفوضى

ثقافة 2021/05/24
...

 ياسين طه حافظ
هذا عنوان كتاب لماثيو ارنولد المعروف برؤيته النقدية الخاصة والمتميزة.  الكتاب بالانجليزية Culture and Anarchy. صدر سنة 1899. لهذا الكتاب صلة بكتابين آخرين هما  ثورة الجماهير the Revoll of Masses لأتيجا كاسيت وكتاب ملاحظات في تعريف الثقافة لـ  ت. س. إليوت ومن الكتب الثلاثة، متكافلة أو متكاملة، نحس بأن اهتماماً، بأن افكاراً محددة تشغل الوسط الثقافي الاكاديمي آنذاك. وتتصل هذه بأحوال «الثقافة المعاصرة»، مستجداتها ومواجهاتها، ومن الفن الاكثر معاصرة، في مستوياته المختلفة، الى مايربك أو ما يستوقف استياء من الفن السائد او الجماهيري.
 
هي تبدو مواجهة بين الثقافي  وغير الثقافي. بايجاز آخر: بين المادية التي يمثلها نتاج المهارات وبين اللامادية  صانعة الفن الراقي وصاحبة المهارات  اللصيقة بالمعنى.. فقد لوحظ ان بعض الفن لا يتجاوز كونه مهارة أو احترافاً.  يفنى بتواصل المتغيرات الاجتماعية. وفن يواصل إشراقه بتواصل المتغيرات. المتغيرات أكثر تعقيداً ولا مرئيةً  مما لايمكن ان يدركه الفن «السائد»  أو «الجماهيري». هذا وإن كان الأكثر لكنه يفتقد للانتباهات المتجددة التي تتطلبها المتغيرات والتي تنمو بسرية وبإرادات خفية ومتعددة. 
هذه ينتبه لها الجوهر الثقافي وهو الذي يدعونا فنه، لأجواء، أبعد مما يُرى.مجمل هذا الكلام يفيدنا في تقدير الحال اليومي للثقافة في بيئتنا. مما يستوجب انعطافة صغيرة في الكلام.. فمهما  كانت استياءاتنا من نواقص الحاضر الاجتماعي وعيوبه، ثمة نمو واضح لا نستطيع نكرانه في حياة الناس وتفكيرهم، ثم في ذائقتهم وفي الوعي الحضاري بنسب مختلفة باختلاف المستويات.  
ونحن في هذه الحال لا نستطيع ان نحافظ على موضوعات في الادب ولا على اساليب استهلكت فما عادت تكفي. هنالك تنام  وتحولات واضحة وخفية، وعلينا احترام الحاجات المتزايدة للجديد، وبالنسبة للفكر، للاختلاف.
لكن ما الذي يجري في حقل التطبيق؟، شخصياً لا أعتقد أبداً بأن قصيدة حب تقليدية تحتفظ اليوم بتأثيرها أو بتقديرها. لم يعد الجسد النسوي بتلك الندرة، لم يعد العازل بتلك المتانة. خلخلة واضحة في اهمية ما كان مهماً. والعلاقات الاجتماعية غير تلك والواقع ايضاً غير ذلك. في الاقل لم تعد كما هي تلك الصرامة التي تستوجب التشوّق شبه المرضي أو الهستيري. ماعاد المرغوب به دائماً بتلك الاستحالة. كما ان الذائقة اختلفت واساليب التعبير عن  الاحتياج غير التي عرفناها. اختلفت الاساليب والوسائل، والملل أدرك الكثير من أساليب التعبير القديمة ومن الاهتمامات ايضا. لا إساءة في هذا، فالحال الجيد منها ارتقى للأفضل عاطفياً وعقلياً وسلوكاً اجتماعياً. للحضارة أجواؤها. من هنا استهجان الرخص والسفاهة في العلاقات الاجتماية واللغو الذي نقرأ احياناً في الادب واللامعنى في الفن.
تلك بعض مما في الفوضى. الثقافة في الفوضى أما أن تحول فوضى – وهذا ما نحن قريبون منه، او تستقطر حيوية التحولات فتأتي بجوهرية عاقلة وبرؤية صافية تمنحان معنى وراحة وتناسبان الانسان في ما وصل إليه عيشاً يومياً وآفاقاً.
لذلك يكون اعتراضنا على الفن التجاري او الاستعراضي أو الخدمي بأي شكل كان لا على ان يبيع او ان يكسب او يخدم ولا على التهريج بأنواعه، لكن الاعتراض على تعطيل العنصر الأهم في الفن والابداع،  ذلكم الذي تعتمده المجتمعات في الرقي.التجارية نشاط ومستويات في المعارض، في المهرجانات في الساحات وحماسات الولاء.. لكن الربح هنا، مباشراً او غير مباشر، يجعلنا في الفوضى. الفن غير الاثارة وان اشتمل عليها. الاثارة في حالها او زيها التهريجي -النفعي ايضاَ- تبعدنا عن الفن لا تأخذنا اليه. هي تسحبنا لنتجاوب مع الفوضى، هذا الكلام يمكن تطبيقه على كثير من الشعر ومن المسرح ومن الكتابات الصحفية ومن البرامج الثقافية والفنية. هذه كلها تعمل بالشروط السائدة، شروط ما سمّيناها بالفوضى، كيف السمو، كيف الرقي في الآداب والفنون والأخلاق وتقاليد الحياة إذا ظلت الفوضى وظلت هذه الفنون والثقافات تسترضي وتنتفع من
 الفوضى؟.الطريق الوحيدة التي نملك اليوم هو مصفاة الاكاديمية أعني فعل النظريات والمنطق التاريخي للتطور والاشتراط بمدى حضور المعنى الآخر. الرمزية التي تهب مضمون الداخل بعداً والدراية التقنية، نكون  مع مايسمى بالانجليزية allegory. 
هذه الأخيرة ذات فعل مباشر في تحويل المادي حولنا ومنحه معنى. وهنا لا يبقى المادي مادياً صرفاً ولا التجاري أو النفعي تجارياً نفعياً صرفاً. لقد منحناه روح الثقافة وحرّضناه على الترفع، إن لم يكن السمو،  وامتلك بالدلالة والوعي الجديدين نزاهة اخلاقية تؤهل عملنا ليكون فناً او قريباً من الفن.يبدو أنني، وقد حاصرني افتقاد الحل، مضطر للاستعانة بكاتبنا كراهام جرين الذي حرضتني روايته على الكتابة. هو الان يمنحنا العزاء الاخير ويقول لنا لا تفكروا بالادب والثقافة وحديهما، الشر أكبر من ذلك. رؤية جرين للعالم الخارجي ان العالم غير بهيج، غنياً كنت او فقيراً. هو الاسى  وهي الخطيئة متأصلة. والكاهن يعيد ويعيد: النتانة وصلت
 للسماء!.السؤال الآن: ماذا نفعل لهذا الشر في العالم؟ لا بد من عمل وكتابة  ينقذان الانسان من الشر ومن الفوضى، وهذان أكبر من الأدب وأكثر أصالة
 منه!.