هدية حسين

بعض الأعمال الروائية تجعلك تشعر بأنك واحد من بين شخصياتها، لأن تلك الشخصيات تشبهك، أو تتطابق مع الأفكار التي تحملها، وربما بسبب أنها تثير في نفسك الأسئلة نفسها التي تسكن رأسك في ما يخص الحياة والموت وما بعده، ومن بين تلك الأعمال رواية «لكنك ستفعل» للروائي الإيطالي جوزيه كاتوتسيلا، إنها رواية كل من فقد عزيزاً وظل ذلك العزيز على صلة به حتى بعد مرور سنوات طويلة على موته.

 على الرغم من أن الرواية لا تقف عند هذه المنطقة فقط، وإنما تكشف لنا طبيعة المجتمع ومعتقداته وسلوك الناس في الأزمات وتناقش قضية المهاجرين، الفقراء الذين يبحثون عن حياة آمنة، لكنهم جاؤوا الى المكان الخطأ في الزمن غير المناسب.

 قبل الدخول في التفاصيل سنتوقف أمام العنوان (لكنك ستفعل) وعادة ما يكون قبل لكن كلام يوحي إما الى الأمر بالفعل ستفعل بناءً على المضمر مما سبق، وإما أن يكون تحصيل حاصل عندما نقول لشخص ما على سبيل المثال: لكنك ستفعل ما تراه مناسباً، وحينما نمضي بالقراءة سيتضح لنا المعنى الذي قصده الكاتب كاتوتسيلا، وذلك من خلال بحث بطل الرواية (بييرو) عن جواب لسؤال لم يسعف الوقت والدته كي تجيب عنه فرحلت عن الدنيا، ولأن الأم كانت تترك أحياناً إجاباتها عن الأسئلة أو ملاحظاتها على قصاصات ورق فقد ظل بييرو يبحث عن الجواب في ما خلّفته أمه ليعثر على نصف قصاصة فيها عنوان مؤرخ، أما النصف الثاني فهو الذي ظل يبحث عنه طيلة صفحات الرواية ليصل الى الجواب بالتوازي مع ما يحدث لمدينة أريليانا التي ذهب إليها بييرو مع اخته نينا ليقضيا العطلة المدرسية مع جديهما فدارت هناك أحداث الرواية؟. 

رواية (لكنك ستفعل) سيرة مدينة من خلال سيرة أسرة آثرت الركون لما حدث لها، فالجد كان يمتلك مزرعة كبيرة ويُعد من الملاك، غير أن العم روكو الذي يمثل هنا جانب الشر ومن أجل ان تكون مزرعته هي الأولى من دون منافسة قام برش السموم في أرض الجد وأراضي بقية المزارعين فتحولت من أرض خصبة الى أرض بور بمساعدة بعض المتنفذين، وبعد سنوات حاول الجد أن يغير البوصلة لصالحه بعد الاتفاق مع المزارعين المتضررين، لكن ذلك سيتم في نهاية الرواية، وستذهب كل الجهود أدراج الرياح بمؤامرات روكو وبطانته وبغياب العدالة أيضاً، وهذا ليس كل شيء في هذه الرواية وإنما سيرة الفتى بييرو الذي يأخذ على عاتقه سرد ما حصل لعائلته ومجتمعه طيلة صفحات الرواية، وليس بعيداً عن علاقته بأمه الميتة التي لم ترحل برحيل جسدها وإنما تعيش معه وتحاوره ويطلب مشورتها كما لو أنها لم تغادر الدنيا، هنا يكمن التشويق في هذه الرواية التي يتصاعد فيها الفعل الدرامي بعد العثور على مجموعة من المهاجرين تختبئ في برج الكنيسة تحت الأرض، والتي شاءت المصادفة أن يعثر عليها بييرو ذات فضول دفعه لاكتشاف ما بداخل البرج.

وحين انتشر خبر أولئك الفقراء المختبئين هاجت المدينة الطاردة لكل ما هو أجنبي، وقوبلوا بعنصرية مقيتة قادها العم روكو ورئيس البلدية، قلة من الناس قبلتهم والأغلبية رفضتهم، بل إن البعض هدد بقتلهم علناً، وأخيراً وبمساعدة الكنيسة تم توزيعهم بين المزارع والبيوت من أجل الخدمة من دون أية حقوق مادية، وكان اليتيم جوش من حصة العم سلفاتور الذي يقضي بييرو في بيته أغلب أوقاته، وهو رجل شبه أعمى، وبعد أن واجه جوش تنمّراً من أصدقاء بييرو تغيرت المعاملة وأصبح صديقاً لهم بعد أن قام بعمل لا يجرؤ عليه أحد، وهو دخول البيت المهجور الذي يعتقد معظم السكان بأن ساحرة تسكن فيه، دخله جوش ليخلص أحد الأطفال حين تسلل الى هناك من دون أن يعرف شيئاً، وكانوا يظنون أن الساحرة اختطفته وسيموت.. وسيكون لجوش دور في كشف ملابسات الحريق الذي دبّره العم روكو ولم يبق من غلة الأرض ومعداتها شيئاً، لكن أمر الكشف جاء متأخراً بعد أن أشيع أن المهاجرين هم من أحرق المزارع، فألقي القبض عليهم وزجّوا في السجن.

 تمشي الأحداث من دون أن ينسى بييرو أمه، فهي رفيقته كلما دعاها في مهمة أو وقع في مشكلة، وتلعب المصادفات دورها في هذه الرواية، من كشف المهاجرين، ثم الكشف عن المتسببين في الحريق، وأخيراً تلك الزيارة التي قام بها بييرو للمدرسة التي كانت أمه تدرّس فيها، وما عادت تلك المدرسة تعمل، كل شيء بقي على حاله، يدخل بييرو ليستعيد بين رحلاتها وجدرانها ذكريات أمه، وحينما أراد الخروج تعثر بالخزانة التي تحتوي على أشياء قديمة، فانفتح الباب وسقطت المحتويات على الأرض، ما كان لبييرو أن يتركها على حالها فراح يفتش بين المحتويات وهناك عثر على نصف القصاصة التي كان قد احتفظ بالنصف الأول منها حينما وجده قبل ذلك في غرفة أمه، ومنذ أن قرأ المكتوب فيه أحس بأنه يدخل عالم الرجال من دون يقين بأنه سيحمل راية التغيير في مدينته التي تفتقر الى العدالة.. لكنه سيسعى.. وسيفعل لأن أمه تريد له ذلك في عبارتها التي تقول: (سيعلّمونك ألا تشرق، لكنك ستفعل) فهذه الحياة التي وجدنا فيها لن تمر إلا من خلالنا، لقد تأخر جواب الأم كثيراً لكنه جاء أخيراً.

......................................................

رواية لكنك ستفعل. منشورات المتوسط. إيطاليا. ترجمة يوسف وقاص- خالد سليمان الناصري.