«الهواءُ الفاسدُ لَمْ يُفْسِدْ كلَّ شيء»

ثقافة 2021/05/27
...

  عامر الطيّب
 
أفضّلُ أن أبدأ حديثي عن الشاعر والمفكر الراحل فوزي كريم بالسؤال عن الحداثةِ، ذلك المفهوم الذي يتمُّ تعريفهُ مراراً ويدور حوله صراع كبير ينجم على أثرهِ تقسيم الشعرية إلى أجيالٍ متباعدة لا تقطع بينها سوى فترات من الزمن. 
الحداثة وأنا هنا أندمج مع فوزي كريم ليست طموحاً تخريبياً يقطع الصلة بالتراث العربي منبهراً بالغرب ومأخوذاً بوعي أو من دون وعي بفكرة أن تفوق الحضارة الغربية لا بد أن يرافقه تفوق في مجالات شتى من بينها الشعر، وهي فكرة منطقية إلى حد كبير، لكن التعامل مع التراث الشعري على طريقة «تحطيم الأصنام» لن يصنع نصاً حيقيقاً -برؤية معاصرة خاصة وجذر راسخ-.
وضمن هذا التعريف الذي يعد الحداثة على أنها قطيعة مع التراث يجد فوزي كريم نفسه ملزماً بالقول «إن كتابة قصيدة غير حداثية أكثر تطابقا مع طبيعته كشاعر».
إن الخبرة الروحية التي تحدث عنها فوزي كريم نابعة من إحساس الشاعر قارئاً لتراثه من دون أن يقطع صلته بزمنه، منفتحاً على زمن العالم الحديث من دون أن يدير ظهره لتراثهِ.
في كتابه «ثياب الإمبراطور» يعرف فوزي كريم الشاعرَ بالباحث عن الحقيقة في باطنه الداخلي لا في العالم الخارجي فحسب والحقيقة هنا هي ما يسميه فوزي الخبرة الروحية أي الرؤية.
فهو يرى أن الأهمَّ في النص الشعري هو أن يكون حقيقياً أي نابع من خبرة الشاعر لا من انبهاره بزمنه أو تلاعبه بلغته.
فالنص الحديث هو يشرفه أن يكون رومانسياً لا أن النص الرومانسي هو الذي يشرف أن يكون حديثاً.
إن فوزي كريم الذي لم يُقرَأ بما فيه الكفاية يشكل برأيي أحد أهم الرؤى الشعرية العربية التي أسهمت بتشكيل وعي شعراء كثر، أعني أنها صدمتهم، فالوعي لا يتشكل غالباً إلّا من خلال الصدمات، وهذا ما تجلى في نصه (أعطني قوت يومي) الذي كتبه أوائل التسعينيات- ليرسم خلوده الشعري.
 
أيُّها الربُّ، إنِّي وحيدٌ أمام عشائي الأخير
أتتبعُ خيطاً من النّملِ يمتدُّ للقطعةِ الباردة
فوق مائدتي من بقايا الكلامْ.
وكما يُدفئُ اللحمُ بردَ العظامْ
يُدفئ اللحنُ سمعي،
إذا أنا أصغيتُ للنبْضِ أو حركاتِ الكواكبْ.
أيُّها الربُّ، إنِّي ضنينٌ بدورةِ هذي العقاربْ
على راحةِ الكفّ، إنِّي ضنينٌ برُكني،
ضنينٌ بهذا الفراغِ الذي يَصلُ الصمتَ بالكلماتْ.
كانت الشمسُ تغربُ من بين هدبيّ،
تمضي إلى مَشرقٍ آخر في كياني،
تعيدُ على مسْمعي دورةَ الأرضِ،
تكرارَ دورتها في ثباتْ.
آهٍ، ما أضيقَ العيشَ داخل بيتي،
وما أوسعَ الشرفاتْ!
آهٍ، من طائر يتلاشى على الأفقِ دوني.
آهٍ، من قلِّةِ الزاد، من بُعد هذي 
الطريق.